علي أبوزيد/ كاتب ليبي
إن مبدأ الفصل بين السلطات وإعطاءَ كلّ سلطة استقلاليتها عن غيرها هو من أهم الضمانات التي تحول دون حدوث الاستبداد في الدولة الحديثة، وإذا كانت السلطتان التشريعية والتنفيذية تأتيان باختيار الشعب وانتخابه لممثليه فيهما، فإنّ سلطة القضاء غالباً ما تكون بالتعيين والتكليف الذي يحصّن من العزل إلا في حالاتٍ ضيقة ومن قبل السلطة القضائية نفسها، وإذا كان التوازن مطلوباً بين السلطات الثلاث، فإن السلطة القضائية تمثل محور هذا التوازن، بما لها من استقلالية وحصانة، ولاختصاص سلطتها في نطاق محدود وحسّاس يؤتيها قوّة ويجعلها بعيدة عن مَظنّة الاستفادة وشبهة السعي وراء المصلحة.
وإذا كان استقلال القضاء ضرورةً لقيام دولة القانون والمؤسسات ووجودها، فإنّ من المهمّ أن نعيَ معنى هذا الاستقلال، فاستقلال القضاء يقصد به تحرّره من تسلّط السلطة التنفيذية أو التشريعية عليه، أو توجيهه أو التعقيب على أحكامه إلا وفق الإجراءات القانونية المنصوص عليها، واستقلاله أيضاً يعني تمكنه من القيام بواجبه والمهام الموكلة إليه دون تدخّل أو منعٍ أو إكراه، ولا يعني استقلال القضاء ألّا يكون في مرمى سهام النقد متى ما تقاعس عن واجبه في صون العدالة وإقامة ميزان القسط والحق، بل إنه واجب لازمٌ على المجتمع أن يجهر بذلك حتى تُقيم المؤسسة العدليّة من أَوَدِها وتُصلح من نفسها، وترقب الله فيما ائتمنها الناس من أمانة.
إنّ ما دعاني لتسطير هذه المقدّمة ما أثير من حديثٍ في الأيام الماضية حول تسوية أوضاع السجناء في المؤسسات المسماة “مؤسسات إصلاح وتأهيل”، وهي مؤسسات يُفترض أنّها تحت إشراف الهيئات القضائية ورقابة وزارة العدل، والحقيقة أنّ أوضاع السجون كانت دوماً مثار قلق التقارير الدولية المتعلّقة بليبيا، إلا أنّ تقرير الخبراء المقدّم للأمم المتحدة في الـ5 من ديسمبر المنصرم، كان أكثر وضوحاً وصراحة فيما يتعلق بأحوال السجون والمساجين فيها، وتحدث عن حالات التعذيب والإخفاء القسري والسجن دون تقديم اتهام وتجاوز المُدَد القانونية للاحتجاز وغير ذلك مما يتنافى مع مبادئ العدالة ونصوص القانون الواضحة والصريحة.
وتجاوباً مع هذا الأمر شكّل المجلس الرئاسي لجنة لمتابعة أحوال السجناء في السجون ابتداءً بسجن معيتيقة الخاضع لسيطرة كتيبة الردع، إلا أن المثير للاستغراب هو حضور آمر الكتيبة للاجتماع الذي عقد في مقرّ المجلس الرئاسي مع ممثل النائب العام (رئيس قسم التحقيقات في مكتب النائب العام) ووزير العدل وجلوسهم على طاولة واحدة.
إن أي متابِع يدرك أن ما يحدث في السجون من مخالفات للإجراءات القانونية وتعذيب وإخفاء قسري هو عمل منظم ومقصود يجب أن يحاسب المسؤول عنه ويحال على التحقيق، لا أن يُشرَك في محاولة إصلاح ما أجرم فيه وأفسد.
إن محاولة الرئاسي إصلاح أوضاع السجون بهذه الكيفية هو اعتداء صريح وواضح على العدالة، وإهدار لحقوق المتضررين، وإعانة للجاني على الإفلات من العقاب، واشتراك مكتب النائب العام في هذه المسألة وبهذه الطريقة هو اشتراك في هذا الاستخفاف بالمؤسسة العدلية ومساهمة في تضييع هيبة القضاء وزعزعة ثقة الناس فيه.
إن سكوت المجلس الأعلى للقضاء عن العبث الحاصل في مؤسسات التأهيل والإصلاح، ورضاه بما يحصل باسم مكتب النائب العام الذي صار مختزلاً في شخص رئيس قسم التحقيقات فيه– إنّ هذا السكوت لا يعفيهم من تبعة تمادي العابثين في هذه المؤسسات وهم يوفرون بسكوتهم هذا الغطاء القانوني لما يحدث داخل هذه المؤسسات.
إن استقلال القضاء وحصانة الممثلين لسلطته ليست هبة ومزيّة، إنما هي أداة تُعِينهم على القيام بالأمانة التي اؤتمنوا عليها، ومن كان ينتظر من هؤلاء قيامَ الدولة ليقوم بواجبه فهو واهم أو جبان، فالدولة لن تقوم ما لم يقم رجال القضاء بواجبهم في إحقاق العدل ومحاربة الفساد وردع الجاني والأخذ على يد الظالم، وإنهم متى صدقوا وأخلصوا في القيام بواجبهم ساندهم الناس وأعانهم المجتمع، ومتى سكتوا عن ذلك كانوا شركاء في الجُرم وأعواناً للظلمة.
إن التغافل عما يصدر من تقارير طافحة بأحوال الفساد المستشري في الدولة والناخر في مؤسساتها، وتقصير مكتب النائب العام عن عمله بتقديم المسؤولين عن ذلك إلى العدالة أو نشر تقارير تحقيقاته للرأي العام يدفعنا للتساؤل عن المجلس الأعلى للقضاء أين هو وأين دوره في الإشراف على هيئات القضاء ومؤسساته والرقابة عليها؟
وهل ستقوم دولةٌ وركن العدالة فيها منهدمٌ أو مائلٌ وحرّاسه في سِنةٍ غافلون؟
علي أبوزيد/ كاتب ليبي
المصدر: ليبيا الخبر