علي أبوزيد/ كاتب ليبي
كشفت اشتباكات طرابلس الأخيرة عن عجز الرئاسي وعدم مقدرته على احتواء الأزمة، وأنه طيلة فترة وجوده في طرابلس لم يقدم أي شيء ملموس بخصوص الملف الأمني ولا غيره من الملفات، بل حاول أن يعيد توزيع خارطة سيطرة المجموعات المسلحة من خلال تقريب بعضها وإقصاء الآخرين فوقع رهينةً لتغوّلها وتنفّذها في كثير من مؤسسات الدولة، وهذا هو السبب المُعلن للاشتباكات في طرابلس.
في المقابل مثلّت اشتباكات طرابلس عودة قوية للمبعوث إلى واجهة الأحداث وقدّمت له فرصة سانحة لتمرير كثير من الملفات مستغِلاً حالة الارتباك والاهتزاز التي أثارتها هذه الاشتباكات داخل المؤسسات المتلكّئة والجامدة، لقد استطاع سلامة جمع الأطراف المشتبكة حول طاولة الحوار وإقناعهم بالاتفاق حول وقف إطلاق النار، وجعل من هذه الاشتباكات مناسبة لتفعيل إجراءات الترتيبات الأمنية، ولم ينسَ سلامة كذلك أن يستثمر موقف العجز الذي وقفه الرئاسي كي يضغط عليه حتى يعلن عن بدء الإصلاحات الاقتصادية، ولا شكّ أن الرئاسي لم يجد بدَّا من ذلك حتى يخفف من حالة الاستياء تجاهه.
غسّان سلامة كان نجم السياسة الليبية هذا الشهر بامتياز، وقد ارتفعت نبرة صوته، وبدا خطابه أكثر حدّة، وأصبحت كلمة العقوبات تتردّد في تصريحاته بوتيرة متزايدة، وجرعة الصراحة ونكهتها واضحة في كلامه، فالرجل هو الأقوى في طرابلس والجميع يصغي إليه، وهذا ما جعل جوقة أدعياء الوطنية تعود لتزعجنا بألحان النشاز المعزوفة على أوتار الوطن متباكية على السيادة المهدرة والكرامة الضائعة، مُظهرة استياءها من الدور الفعَال والمؤثّر للمبعوث الأممي غسان سلامة.
بعيداً عن إثارة العواطف وادعاء الوطنية يجب أن يسأل الليبيون أنفسهم اليوم خاصة المتصدرين لواجهة الأحداث: لماذا يحظى سلامة بكل هذا النفوذ والزخم في طرابلس؟
الإجابة لا تحتاج إلى طول الفكرة ولا إلى عمقها، فكل أطراف الصراع اليوم سواء السياسي أو العسكري لا تثق في بعضها، ولن تقبل وساطة طرف ثالث ليبي، وحالة انهيار الثقة بين هذه الأطراف هو ما يجعل من سلامة أو أي مبعوث أممي أو سفير لدى ليبيا محلّ الثقة وصاحب وساطة مقبولة لدى أطراف لا يملك أغلبها مشروعا ولا رؤية.
منذ بداية الأزمة في 2014 وأطراف الصراع الليبي ليست عاجزة عن إيجاد أدوات الحل فقط، بل كان أغلبها مصرًّا على تدمير كل الأدوات التي تقدّم كمقترحات للخروج من الأزمة، فعقلية المغالبة وعدم القبول بالمشاركة السياسية للآخرين والتمسّك بمبدأ الانفراد بالسلطة جعل كل ما قُدّم من حلول خلال الفترة الماضية بالنسبة للأطراف المتعنّة حلولاً غير ملائمة ولا عادلة لأنها لا تنسجم مع عقلية الأقصاء ولا تلبّي مطامع هذه الأطراف في التفرّد بالسلطة.
إن ما نشهده اليوم من بيانات لتجمعات قبلية أو كتل سياسية داخل الأجسام القائمة أو خارجها، وطرحها لمبادرات أو دعوتها لاستعجال الانتخابات ليس إلا محاولة لتقحّم المشهد المزدحم بالأطراف والمبادرات ولن تزيد المشهد إلا إرباكاً وفوضى، وستطيل في المحصلة عمر الأزمة وتفاقم من تعقيدها.
إن أطراف الصراع اليوم يجب أن تُدرك أنها لن تحسم الصراع بالعمل العسكري، ولن تكون مبادراتها مقبولةً مادامت طرَفاً فيه، وأن أدوات الحل لن توجد إلا من خلال عملية سياسية بحوار جاد ومفتوح ومن خلال الأجسام القائمة، كما أن تفعيل الأدوات المتوفرة هو الطريق الأقصر والأقرب للوصول إلى حالة التعافي والاستقرار التي لن يكون بلوغها سهلاً، فالأزمة عميقة ومتشّعبة وتحتاج إلى تؤدة وتأنٍّ.
إن المشكلة اليوم ليست في عدم وجود الحل، ولكن في إصرار كثير من الأطراف بعد أن كانت سبباً في الأزمة أن تكون مقترحة الحلّ لها وصاحبة الحق الحصري في تنفيذه والاستفادة منه، دون قبول بمبدأ المشاركة والتعاطي مع الآخر، وهذا ما سيجعل أي حل جيداً مع وقف التنفيذ.
فبدل أن يستهجن أدعياء الوطنية دور سلامة وتحركاته في طرابلس وخارجها، ويغرقونا بفيض عواطف وطنيتهم الجارفة، عليهم أن يعرفوا أن الوطنية تعني العبور بالوطن من أزماته وخلق معادلة التعايش الحقيقي في إطار الدستور ودولة المواطنة والقانون ويبتعدوا عن نهج المغالبة وعقلية الإقصاء وخطاب المزايدة.
المصدر: ليبيا الخير