انتشار المجموعات المسلحة وسيطرتها على أغلب المنشآت الحيوية والمراكز الأمنية في طرابلس كان أكثر الملفات تعقيداً وتمنّعاً عن الحل في كل الحكومات المتعاقبة منذ 2011، هذه المجموعات التي دخلت طرابلس أو تشكلت فيها بذريعة حماية العاصمة، وصون ثورة فبراير والحفاظ عليها، كما أن هذه المجموعات المسلحة كانت غالباً ذات طابع قبلي وجهوي مناطقي ينافي المعايير الأمنية ويصادم القواعد العسكرية، وهذا ما كان دائماً العائق الأكبر لدمج هذه المجموعات والتشكيلات المسلحة في المؤسسة الأمنية أو العسكرية، وبقيت كل محاولات الدمج عبارة عن تغيير في المسميات تستتر تحته فوضى السلاح وغياب حزم القيادة المسيطرة.
هذا النوع من الفوضى كان من الأسباب الرئيسية لحرب فجر ليبيا، والذي أدى لقناعة تامة لدى أطراف الصراع السياسي بضرورة إخلاء العاصمة من هذه المجموعات المسلحة، وهو ما تُرجم في الاتفاق السياسي وعُرف بالترتيبات الأمنية، وعند تشكيل المجلس الرئاسي كانت هذه الترتيبات أولويته القصوى التي يجب أن ينفذها على وجه السرعة، وقد كانت الظروف ملائمة للمجلس أن يبدأ بتنفيذ هذه الترتيبات، خاصة أن المجموعات المسلحة الرافضة للاتفاق السياسي آثرت عدم الصدام والتزمت مواقعها، في محاولة لإظهار حسن النوايا.
الرئاسي رغم الترحيب الشعبي الذي حظي به، والدعم الدولي الذي ناله عند دخوله العاصمة، آثر الطريق السهل للتعامل مع الملف الأمني، وفضّل أن يدير فوضى المجموعات المسلحة بدل أن ينهيَها، غير عابئٍ بعواقب هذه المغامرة التي نشهد منذ أسبوع أجلى نتائجها، لقد اختار الرئاسي أن ينحاز ويتحالف مع كتائب وتشكيلات ضدّ أخرى، وقد نجح إلى حدّ بعيد في بسط سيطرته من خلال هذه التشكيلات على جلّ طرابلس، إلا أنه وجد نفسه رهينة لزعماء هذه التشكيلات التي أصبحت واجهة لشركات الاعتمادات المستندية، ومديرة لسوق الفساد الذي تغلغل حتى النخاع في جسد الدولة، وأصبحت مجالس الإدارات في مؤسسات الدولة وشركاتها تعيّن وفق توصيات أمراء السلاح الملزمة، ويكفي ما في تقرير ديوان المحاسبة من مؤشرات وأرقام على هذا الواقع الذي لا يخفى على عاقل.
بل إن تقاذف كرة الإصلاحات الاقتصادية بين المجلس الرئاسي ومصرف ليبيا المركزي ليس إلا نتيجة لضغط هذه العصابات المسلحة ومَن وراءها من رجال أعمال فاسدين مستفيدين، كل هذا وسط عجز تام من المجلس الرئاسي عن إدارة أي ملف، واتساع متزايد لرقعة الفساد انعكست معاناةً ومأساةً على المواطن، وطالته في رغيف خبزه، بعد أن حرمته الكهرباء وأضنته وأنهكته في طوابير المصارف والوقود والغاز.
انفراد أمراء التشكيلات المسلحة بالعاصمة، وتحكمهم بأمور البلاد على طريقة المافيا بابتزاز الرئاسي العاجز وجرّه للشراكة في الفساد طواعيةً أو توريطاً، أثار أطماع غيرهم ممن كان في العاصمة أو يحلم أن يكون له نصيب من كعكتها، متخذين من معاناة الناس ذريعةً لهم، وما نراه اليوم من اقتتال ما هو إلا صراع أطماع على بقايا مقدرات الدولة، وترسيخ لدولة العصابات التي ترى في البلاد غنيمة يجب أن تنتهب، ولا علاقة لهؤلاء بأيدولوجيا أو فكر، إنما تحركهم أطماعهم واشتهاء السلطة.
إن فشل المجلس الرئاسي وعجزه يحتم على أطراف الأزمة تجاوزه بإعادة هيكلة السلطة التنفيذية هيكلة أكثر قدرة وفاعلية، إضافة لذلك فإن الرئاسي بعجزه وفشله الحالي لا يمكن أن يعوّل عليه في تأمين وحماية العملية الانتخابية، كما أنه لا يمكن توحيد السلطة التنفيذية تحت سلطة المجلس الرئاسي وهو بالوضع الحالي.
إن توافق مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على إعادة هيكلة المجلس الرئاسي ونجاحهم في توحيد السلطة التنفيذية تحدٍّ صعب، ويمثل فرصة كبيرة لإعادة بناء الثقة في العملية السياسية ودفعها للإمام، وهو ما تستلزمه المرحلة الحالية من أجل الوصول إلى الانتخابات.
المصدر: ليبيا الخبر