الأقرب عندي أن قرار حفتر نقل تبعية الموانئ والحقول النفطية للمؤسسة الوطنية لم يكن من بنات فكره وعصارة عقله، وأن الاقتراح أو التوجيه كان خارجيا من طرف إقليمي أو حتى دولي داعم لحفتر، وربما كان التخطيط أن تنقل الخطوة النزاع إلى مرحلة جديدة يكون فيها حفتر وأنصاره رابحين في كل الأحوال.
فأمام ضعف المجلس الرئاسي وانقسامه على نفسه وعجزه عن فرض سلطته في مواجهة نفوذ حفتر باعتبار أن الأخير كان أكبر تحد واجهه الرئاسي، كان يمكن أن تكون خطوة السيطرة على النفط إنتاجا وتصديرا ورقة مهمة في التفاوض وإملاء مزيد من الشروط من قبل حفتر.
الأوروبيون أقل من أن يكونوا قاربا للوصول إلى تسوية ليبية بانقسامهم على أنفسهم فيما يتعلق بالأزمة الليبية خاصة مع تفرد باريس وروما بأجندات متناقضة ومستقلة عن عاصمة الاتحاد بروكسل والعواصم الكبرى.
دخل ترامب على الخط بطريقته المتعجرفة وقراراته السريعة وتوجيهاته الحاسمة التي تكررت مرات ومرات في ملفات أكثر حساسية بالنسبة لواشنطن ولها تداعيات على النظام الدولي السياسي والاقتصادي والأمني كما هو معروف.
تراجع حفتر أمام العجرفة والضغط القوي المباشر، وبدا موقفه ضعيفا ووضعه صعبا أمام الرأي العام المحلي المؤيد له، ولنتذكر أن من بين أسباب الانتفاض على القذافي هو تحوله إلى حمل وديع أمام الأطراف الدولية بعد حقبة من الاستئساد وخضوعه لمطالبهم المحرجة.
وكما أيد جمهرة من الساسة والشيوخ والأعيان والنخبويون بشتى أطيافهم قرار نقل التبعية إلى بنغازي باركوا قرار التراجع عنه، والأسباب معلومة للجميع تقريبا وانعكاساتها ستكون جلية في الفترة القادمة بلا شك.
المسألة الأكثر أهمية هو التأكيد على موقف “البرقاويين” سواء أنصار الفدرالية أو حتى الراغبين في الانفصال كليا من أن حفتر ضرر كبير على برقة، وأن مشروعه لا مكان فيه لحقوقها بل سيتضح أنه جلب لها الخراب عمرانيا واجتماعيا.
فبرقة لم تشهد حروبا طاحنة بين سكانها منذ زمن طويل، ولم تعرف الانقسام والصراع النافذ إلى عمق بنائها الاجتماعي منذ عقود طويلة، وها هو يتجدد ويستفحل بعد عملية الكرامة ويستمر بإدارة من المشير، الزعيم الذي لا يستطيع التعقيب على قرارته أحد حتى البرلمان.
هذه المسألة يمكن أن تتغذى على الارتباك في موقف حفتر من ملف النفط، كما تغذت على سوابق أخرى إبان حرب بنغازي وحرب درنة، وسيكون للإحباط الذي وقع لفئة واسعة هللت للقرار واعتبرته بداية لتحكم برقة في ثروة النفط التي ينتج ويصدر أكثره ضمن حدودها الإدارية تاريخيا.
يمكن أن يعمق تراجع حفتر من شرخ جبهته الداخلية ويسحب البساط من كثير من مؤيديه الذين يتأكد كل يوم أنهم لا موقف وطني أو حتى “برقاوي” لهم وإنما هو اللهث خلف المشير والتطبيل لمواقفه، وأرجع إلى مواقع التواصل الاجتماعي وانظر مستوى وحجم السخط على هؤلاء من قبل أنصار الكرامة قبل خصومها.
مساعي التخفيف من نتائج إدارة ملف النفط كما أراد حفتر ومن يدعمه تزيد من تعقيد الموضوع وتعزز من موقف المناوئين لحفتر ضمن جبهة طبرق، ولك أن تقارن تصريحات الناطق باسم الجيش، احمد المسماري، بعد قرار نقل التبعية لبنغازي وبعد التراجع عنه، فالنتيجة هي تخبط وترقيع يضاعف من النقمة ولا يخفف من الآثار السلبية للنتائج.
الهوة بل والقطيعة بين “الشيوخ” و”الأعيان” و”أصحاب المناصب” وبين الرأي العام “البرقاوي” تتعمق أكثر بأثر النتائج الأخيرة في موضوع النفط حيث التناقضات في بيانات التأييد وخطابات الدعم، وإلا كيف يمكن أن يقبل هؤلاء جوقة التأييد لإرجاع النفط لسلطة من تم اتهامهم بتمويل الإرهاب ضد برقة؟!
وإذا جمعت مع ما سبق التكهن به متفرقات مختلفة مثل ملف الجرح المهملين، وملف إعمار بنغازي، وملف المجموعات المسلحة خارج السلطة والمتورطة في جرائم، واغتصاب الأملاك العامة والخاصة، والذي لا تتعامل معه قيادة الجيش إلا بمقاربة أمنية صارمة إذا لا تفقه غير هذا الخيار فإنه من المحتمل جدا أن تكون التداعيات أكبر وأخطر.
—-
المصدر/ عربي 21