لا ينكر أحد التأثير الواسع للخطاب الديني في مجتمعاتنا، وخاصة ما تمثله الفتاوى من دعاية مهمة للتوجهات السياسية، ومنذ الربيع العربي على الخصوص كان للخطاب الديني دور مهم وحاضر في المشهد، بل شغل حيزاً من الصراع في مرحلة الموجات الارتدادية التي أعقبت الربيع العربي، واستخدمت الفتاوى ووُظّفت من مختلف التوجهات لأجل الدعاية السياسية، وتحشيد الرأي العام، وكانت غالباً دور الإفتاء والمؤسسات الدينية الرسمية متماهيةً ومنسجمةً في مواقفها مع الرأي الرسمي للسلطة القائمة على اعتبار أنها جهة رسمية خاضعة لهذه السلطة.
ولقد كانت دار الإفتاء الليبية استثناءً في هذا الوضع، فقد اتجهت دار الإفتاء منذ تأسيسها إلى الاستقلالية، ونحت نحو الاضطلاع بدور كبير في المشهد الليبي، وهو أمر كانت له مبرراته، فقد عدّ كثير من الليبيين دار الإفتاء مكسباً من مكاسب ثورة في فبراير، خاصة وأنّ النظام السابق أقفل دار الإفتاء منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، إلا أن دار الإفتاء لم تنجح في أن يكون لها الدور الكبير في العمل كمؤسسة دينية جامعة، تخاطب كل أبناء الوطن وتمثل لهم المرجع الذي يحتكمون إليه من خلال خطابٍ واعٍ ومدركٍ للواقع، ومن خلال آلياتٍ ومنهجٍ قادر على استيعاب كل التوجهات المجتمعية التي كانت تعاني حالة من الحيرة والتخبط بسبب الفراغ المخيف الذي تركه نظام شمولي ليس فيه مرجعية دستورية ولا مؤسسات قوية، وإنما تركة ثقيلة وقاتلة من أطنان الأسلحة وآثار الحرب وبنية مجتمعية هشّة.
لقد تبنّت دار الإفتاء منذ يومها الأول وحتى اليوم خطاباً ثورياً تصعيدياً، أعطى لها وحدها الحق الحصري في تفسير مبادئ الثورة وحراسة أهدافها والدفاع عن ثوابتها، تضفي به الشرعية الثورية على من تشاء، وتنزعه عمّن تشاء، بل دخلت الدار معترك السياسة من بوابة التدافع السياسي، وصارت طرفاً يغالب في معركته السياسية بسبب هذا النهج التصادمي، كما حرصت أن تسجّل مواقفها السياسية في صورة فتاوى شرعية في أدقّ تفاصيل العملية السياسية، بل ربما تعدى الأمر ذلك فأصدرت بيانات أو تصريحاتٍ تمسّ الشأن السياسي الخارجي، كما كان الحال فيما يخص بعض التصريحات بشأن السفارة الإيرانية بعد الثورة عام 2012، وكبيان تأييد عملية عاصفة الحزم على اليمن، والذي يبدو أنها تراجعت عنه بمواقفها الأخيرة المهاجمة لسياسة الإمارات والسعودية.
إن تدخّل مؤسسة الفتوى في تفاصيل العملية السياسية والإدارية في الدولة أمرٌ له خطورته وتبعاته، فهو إلى جانب كونه اعتداءً على تخصصات الجهات الأخرى مما يسبب الإرباك، فإنه قتلٌ للحياة السياسية القائمة على اجتهاد الفاعلين فيها من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، وذلك من خلال تقديم برامجهم للناخب وتحكيمه عبر صندوق الاقتراع، ولا شكّ أن تقديم الرأي السياسي في صورة الفتوى الشرعية يحمل في طيّه إلزاماً معنوياً يفسد حرية الاختيار لدى الناخب، ويضيق على السياسي مجال الاجتهاد لتحقيق المصلحة الوطنية.
وهذا لا يعني بحالٍ عزل مؤسسة الفتوى عن تناول الشأن العام، بل يجب عليها ذلك ولكن وفق ما يتناسب مع دورها وعلاقتها بالمؤسسات الأخرى للدولة، وهي مطالبةٌ في هذا التناول أن تقدّم خطاباً يسع كل أبناء الوطن ويحرص على تحقيق المقاصد الشرعية المطلوبة، وأن توازن بين المفاسد والمصالح، مع اعتبارها للمآلات والعواقب المستشفّة من إدراك واعٍ بالواقع.
إنّ إصرار دار الإفتاء على اتخاذ المرجعية الثورية منهجاً لخطابها وفتواها وتسخيرها آلة إعلامية ضخمة لنشر هذا الخطاب وترويجه جعل منها بامتياز طرفاً في الصراع السياسي، له مؤيدوه ومناوئوه، بل إنه جعل كثيراً من التيارات السياسية تستخدم خطاباً دينياً مضاداً للمنهج الفكري لدار الإفتاء، كما هو الحال مع تيار الكرامة الذي وظّف التيار المدخلي لمجابهة خطابها، وهذا الأمر جعل دار الإفتاء تتقارب بشكل علني وصريح مع تيار السلفية الحركية الممثل أغلبه في بقايا الجماعة الليبية المقاتلة، وكل ذلك انعكس سلباً على دور دار الإفتاء الأصيل في إرشاد الناس وتعليمهم دينهم، وأفقد الثقة فيها كمؤسسة دينية تخاطب الجميع ويلجأ إليها الجميع.
إن الحقيقة المرُّة التي يجب أن نقولها: إن دار الإفتاء بالقائمين عليها هي كغيرها من مؤسسات الدولة المعطلة عن دورها الحقيقي، ولن تكون قادرة على القيام بهذا الدور ما لم تكن قائمة على مرجعية شرعية صحيحة، يدرك القائمون عليها دورها الوطني المكمل لبقية مؤسسات الدولة، وإلا فإنها ستبقى عامل إرباك وتعطيلٍ للعملية السياسية وربما عامل توتر وتصعيد.
المصدر : موقع ليبيا الخبر