بقلم: د. عيسى بغني
حلم الشعوب، حلم الأجيال قد يتعثر، يتلكأ ويخبو أحيانا ولكن لن يموت، تعترضه دسائس الأنذال، مؤامرات المأجورين والنفعيين، ينساهم الناس أجمعين، ويسجل لهم التاريخ صفحات من سواد تبقى أبد الآبدين، عندما كان القادة الليبيون يسطَرون ملاحم الكفاح المسلح ضد الإيطاليين ويعلنون قيام أول جمهورية في العالم الإسلامي وهي الجمهورية الطرابلسية في جامع المجابرة بمسلاته في يوم 16 نوفمبر 1918م، بدستورها ومجلس شورى لها وحكومتها، كان من سموا أنفسهم قادة القبائل يقدمون خدماتهم للمستعمر بواسطة التاجر اليهودي خلافو ناحوم ليصبحوا موظفين في حكومة القانون الأساسي (المسلم طليان)، وفي برقة كان اعتراف إيطاليا في 11 أبريل 1917 م بالحكم الذاتي للسنوسية في الإقليم بموجب اتفاق عكرمة ضرب آخر من ترسيخ الجهوية.
بعد الاستقلال الذي نتج عن اختلاف دول الحلفاء في تقرير مصير القطر الليبي لم يختلف المشهد فإخواننا في الشرق ألهب مشاعرهم الملك السنوسي وأصبح أميرا لهم وملكاً على ليبيا بتدبير الإنجليز، لولايات يقودها قادة يكره بعضهم البعض، ولم يتم توحيد الدولة الليبية المتحدة إلا بضغوط شركات النفط، وعلى رأسهم مديرو شركتي أكسي وإسو للنفط.
قبل سبع سنوات ظهر علم المملكة المختفي لعقود إلى الواجهة، وأعاد الشعب الليبي إلى بداية الخمسينات من القرن الماضي وأثبت العقل الجمعي الليبي خسارة ستة عقود من عمر الدولة الليبية، لا زمن جميل ولا حكومة دكتاتورية متسلطة أكسبت الشعب الليبي قيم المواطنة والعدالة والمساواة والحرية وتقبل الاختلاف واحترام قوانين الدولة، وتبجيل قيم العمل والإنتاج، ناهيك عن تبني الحداثة والانفتاح على العالم وترسيخ قيم الديموقراطية.
المتابع للشأن الليبي الراهن بقياداته السياسية والعسكرية الموالية للخارج وتشظيه الجغرافي وانقسامه المجتمعي يتبين له بجلاء استحالة إصدار الدستور والانتقال لمرحلة الوضع النهائي أي وضع تأسيس هياكل الدولة.
لقد أهدرت القيادات الحالية وهياكلها المتهالكة أربع سنوات من عمر الليبيين قضتها في مناكفات مستمرة من أجل استمرارهم على سدة المشهد الليبي، وإن لم ينته هذا المسلسل المقرف والدموي بانتخابات رئاسية وبرلمانية خلال الأشهر القادمة ستستمر مناكفات (الإخوة الأعداء) العلنية وتلددهم الخفي بمعاناة المواطن لسنوات قادمة كما حدث في رومانيا بعد الثورة على تشاوسيسكو وروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
الدساتير يكتبها المفكرون على مر التاريخ لما لهم من حيادية وبعد نظر، ويتبناها الساسة في الوضع السوي، ولا يحتاج ذلك إلا لبضعة أشهر عندما يكون هناك دولة بمؤسسات فاعلة وقيادات حكيمة، وهو واقع الحال عند الكثير من الدول التي شهدت تغيرا سياسيا واجتماعيا أو تطويرا لأنظمتها السائدة.
في المشهد الليبي هرع الحقوقيون إلى لجنة الستين التي ولدت من رحم إقفال الطريق الساحلي عند الوادي (الحمر) من قبل الفيدراليين، بتوزيع مغشوش لمقاعدها، وبفعل وجود كتلة كبيرة من رجال القانون الجنائي والقانون المدني في لجنة الستين أصبح مقر اللجنة ساحة للمرافعات لأجل حصول موكليهم (ممثليهم) على أكبر قدر من الغنائم المستدامة بفعل دوام الدستور، ولذا تشظت اللجنة وقاطعها الكثيرون ورفعت عليها قضايا لدى المحاكم.
لجنة الدستور تقع تحت تأثير الفيدراليين والجهويين والقبليين ومن يريد العودة للملكية والإعلام المأجور، وبذلك لا تستطيع أن تلتزم بتأكيد القيم الحاكمة لقيام دولة عصرية فاعلة، وعلى رأسها مفهوم المواطنة.
هذا الوضع لن ينتج دستورا سويا، وسيُضرب به عرض الحائط من أول تغيير في رئاسة الدولة كما حدث في مصر؛ من دستور مرسي إلى دستور السيسي في ثلاثة أشهر.
نعم المشكلة ثقافية أكثر من مشكلة دستور، فالدول المتقدمة مثل بريطانيا ليس لها دستور مكتوب، والدول الإسكندنافية قلما يواجهون مشاكل دستورية، وحتى في وجود دستور لم يساعد لبنان على تخطي أكثر من عام كامل بلا رئيس دولة، ومشاكل مجتمعية لا تنتهي، ولكن الدستور منارة للقيادات الوطنية الفاعلة.
الانتخابات بدعم ومراقبة دولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة هي الحل الأمثل، فمجلس النواب ومجلس الدولة قد انتهت شرعيتهما، والجيش ليس له دور في السلطة، أما المجلس الرئاسي الحالي المعترف به دوليا فلا أمل له في تمديد نفسه لفترات قادمة، وهو الذي يجب أن يكون سبيلا آمنا لتخطي الأجسام السابقة بانتخابات برلمانية ورئاسية شفافة، تزيل أردان الحقبة الحالية، وتفتح لمرحلة جديدة يمكن بها تخطي الهنّات الحالية وتطوير آليات ومتطلبات بناء الدولة، ومن ضمنها كتابة الدستور وتوحيد الجيش وبناء المؤسسات.