توظيف الخطاب الديني واستغلال الدين كواجهة لتمرير المواقف السياسية وتحقيق المصالح من أكبر الإشكاليات التي تثير الجدل فيما يخصّ السلوك السياسي، في العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً، كما أنّ استغلال الخطاب الديني واستخدامه كشعار من أكثر النقاط التي يعاب بها تيار الإسلامي، ويتهمّ بأنه يحاول من خلال ذلك التأثير على الناس واستمالة مواقفهم في صالحه، فما مدى دقّة هذا النقد؟ وهل يقتصر استخدام الخطاب الديني على تيارات الإسلام السياسي فقط؟
من الأمور التي يجب أن نشير إليها في بداية حديثنا أنّ الخطاب الديني مازال هو الأكثر تأثيراً في جموع الأمة المسلمة، وسيظل هذا التأثير قائماً مادام إيمانهم راسخاً بدينهم، فالسواد الأعظم من المسلمين يعتقدون أنّ دينهم ليس إيماناً يمثّل العلاقة بين العبد وربه فقط، بل هو نظام حياة أرسل الله به نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليبين للبشر كيفية قيامهم بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها كما دلت على ذلك كثير من الآيات القرآنية: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين)، (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، فهذا الاعتقاد الذي ترسخ عند عامة المسلمين بأن الشريعة تضمّنت سائر جوانب الحياة وانعكس ذلك في أحكامها التكليفية الخمسة (الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح)، واعتبارها لمقاصد التشريع والمصالح والمفاسد والمآلات، كلّ ذلك جعل الدين وخطابه هو الأكثر تأثير في عموم المسلمين لارتباطه بمعتقد راسخ لا يتزحزح، ذلك المعتقد الذي ولّد فيهم أنهم على الدوام أمة قوية ومتميزة، وقادرة على النهوض مهما تردت في مهاوي الضعف والعجز متى ما أقامت دينها.
ولقد أدرك مدى هذا التأثير للخطاب الديني كل من حاول سياسة الأمة المسلمة وتصريف أمورها بداية من المستعمر، فنجد نابليون لما أن سيطر على القاهرة في الحملة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر كوّن مجلساً صورياً للحكم وعيّن فيها عدداً من كبار مشايخ الأزهر، وجعل رئيسه الشيخ عبد الله الشرقاوي وليس ذلك إلا ليرضي جماهير الناس الرافضة للوجود الفرنسي، ونجد بريطانيا في هذا الشأن أكثر دهاءً ومكراً بما عرفت به من تغذية وإذكاء لنار العصبية الدينية والاحتراب الطائفي ومعلوم ذلك لمن له أدنى معرفة بخبث سياستها في شبه الجزيرة الهندية، ودور مستشرقيها في بلاد الإسلام التي احتلتها، وأما أنظمة الاستبداد العربي فإنها لم تتردد في تطويع الدين لخدمتها بمحاربة مؤسساته، وتحجيم دورها، وجعل رئاستها وإدارتها لمن يوالون هذه الأنظمة ويؤيدونها، وقانون الأزهر والأوقاف الذي تلا ما عرف بثورة 23 يوليو، وما فعله أبورقيبة بالزيتونة خير شواهد على ذلك، كما لا يمكننا هنا أن نتجاوز النظام السعودي الذي اتخذ من الحركة الوهابية وخطابها رافدَهُ الذي يمدّه بالتأييد ويبارك مواقفه على طول خط سياسته المتعرجة والمضطربة.
ولازلنا نشاهد إلى اليوم توظيف الدين بخطابه ومؤسساته لتكريس بقاء أنظمة الاستبداد والديكتاتورية، ودعم العسكر والمحاولات الانقلابية، ونجد كل نظام يقرّب ويدعم الخطاب الديني الذي يجد منه التأييد والمباركة مع اختلاف المرجعيات الفكرية لهذه الخطابات بين وهابية وصوفية وسنية وشيعية وغيرها، بل نجد قوى التيارات العلمانية تبارك وتدعم أو تسكت وتتغافل عن الخطاب الديني المعادي لتيار الإسلام السياسي لمجرد أنه يوافق هواها السياسي وإن صادم مبادئها.
إن الغرض من هذا العرض التأكيد على أن استخدام الدين وتوظيفه سياسياً ليس مقتصراً على تيار الإسلام السياسي فقط، بل إن استخدامه من القوى الأخرى هو الذي يعتبر استغلالاً بشعاً لما فيه من تطويع للخطاب الديني ومؤسساته لتبرير المواقف وتحشيد التأييد في برغماتية مفضوحة، بينما أغلب تيارات الإسلام السياسي تحاول أن تبني مواقفها وفق تأصيل منسجم مع مرجعيتها الإسلامية القائمة على اعتبار المقاصد الشرعية والموازنة بين المصالح والمفاسد والنظر إلى المآلات، وهذا لا ينفي بحالٍ وقوع هذا التيارات في أخطاء وتبنيها لمواقف جانبها فيها الصواب بسبب سوء تقديرها وعدم فهمها للواقع بشكل جيد أحياناً، وهذه طبيعة السياسة.
إن حضور الخطاب الديني في السياسة أمر لا مفرّ منه مادام الإسلام قائما في نفوس أبنائه المؤمنين بأنه دين يبين لهم شأن دنياهم وأخراهم، كما أن شكل استخدامه متوقف على مدى وعي أبنائه وموقف المشتغلين بالسياسة منه، لهذا فإن عدم فهم كثير من المشتغلين بالسياسة لمعنى المرجعية الإسلامية وإصرارهم على تفسيرها بالحكم الثيوقراطي، ومحاولة تطبيق تجارب أمم أخرى دون اعتبار لخصوصية هذه الأمة وهويتها، وإنكارهم المستعصي لحقيقة أن مركز الثقل في وجدان الأمة ووعيها تجاه أي قضية هو دينها، لن يغير أبداً من واقع حضور الدين في أي شيء، لكن سيؤثر بلا شك في طبيعة هذا الحضور، هل سيكون حضوراً مثمرً وواعياً بالواقع وقادراً على معالجته، أو سيكون حضوراً متماهياً مع رغبة المستبدّ وهواه؟
المصدر/ ليبيا الخبر