المتتبع للشأن السياسي في العالم الغربي والعربي عمومًا والإقليمي خصوصًا، وفي القلب منه ليبيا، لا يخفى عليه بأن الديمقراطية بأدواتها المعروفة لم تكن حاضرةً يومًا، بل إن فترة ما بعد الاستقلال مرت بعواصف استبدادية على الصعيد العربي والليبي، وقد كان دائمًا ثمة حائلٌ بين إرادة الشعب ونظامه السياسي، ولعل مرحلة ما قبل 17. 2. 2011م في ليبيا، وغيرها في الدول العربية التي شهدت الثورات الشعبية المطيحة بأنظمة جثمت عقودًا على الأوطان والشعوب ومقدراتها، إنما كانت مرحلةً استبداديّةً بامتياز.
فالشعوب لم تثر في غالب الحال على حاكمٍ جاء بموجب دستور وانتخابات حرة ليحكم لفترةٍ معلومة ويمضي، بل ثارت على أولئك الذين ربطوا مداد أعمارهم ببقائهم في الحكم ثم سنّوا توريث الأرض والشجر والعباد من بعدهم لأبنائهم دون خجلٍ من الشعوب ولا وجلٍ من الله.
اليوم في ليبيا شخصيًّا وإن التمستُ شيئًا من العذر لأولئك البسطاء المنادين بحكم العسكر توهُّمًا، متصورين أن العسكر سيخلصهم من الإرهاب، دون إغفال أن العسكر لم يكن يومًا محاربًا للإرهاب، إلا من أجل ترسيخ إرهابه وقمعه هو من خلال بزّاتٍ ورتبٍ همُّها ليس ممارسة وظيفتها التي لا علاقة تربطها بالسياسة وسلطان الحكم، بل إنما يكمن دورها في حماية إرادة الأمة ودستورها وحدودها وكيان دولتها وسيادتها، وأن المختزلين لكل أحلام الشعب في حريةٍ داخل ثوب استبدادٍ جديدٍ إنما هم واهمون واهمون.
غير أنني وفي ذات السياق أقف حائرًا وأنا أرى رأي العين على الشاشات نوّابًا اختارهم الشعب من خلال ديمقراطية انتخابية لم يكونوا ليحلموا بها فيما لو كان النظام العسكري قائما، حيث أراهم ويراهم الجميع منادين بحكم الرجل الواحد وسيطرة حكم العسكر الذي كشر لهم عن بعض أنيابه حين انتزع عمداء بلديات منتخبين وأجلس بدلهم ضباطا عسكريين ليوصل لهم رسالة مفادها:- أنكم أنتم النواب كذلك منتخبون من الشعب مثلكم مثل عمداء البلديات، وبالتالي فإن أكل الثور الأبيض هو مؤشرٌ على أن الدور القادم سيكون على الثور الأسود ( نواب البرلمان )، غير أن العسكر الذي يشتغل بخطط انقلابية ممولة من الخارج عادةً ما يتجنب في الفترة الحالية الصدام مع البرلمان القائم حتى يقضي منه وطره، فيجعل منه ورقةً سياسيّةً يستمد منها رائحة الشرعية الباهتة كصك براءة يسوق به نفسه داخليًّا وخارجيًّا، ويروج أنه بذلك يدعم الدولة المدنية التي لا يمقت العساكر الحالمون بالسلطة أكثر منها، وبالتالي فإن تصدي برلمانيين كثرًا لمنصات الدفاع عن العسكر وعلى رأسه مشير الكرامة هو غباءٌ بل بغاءٌ فاحش، وهو تنكر للأمانة التي حملها لهم أبناء شعبهم عندما اختاروهم ليقيموا لهم دولتهم المدنية بعد عقودٍ من حكم الفرد العسكري، فيتفاجئون بأن نوابهم خانوا تلك الأمانة وانقلبوا على أعقابهم ليعيدوا إنتاج النظام الاستبدادي ذاته الذي دفعوا ثمن إزالته أنهارًا من الدماء الزكيات، وجبالًا من الجثامين الطاهرات، وأن من ائتمنوهم على مسيرة التحول الديمقراطي في فرصة تاريخية سانحة كمكافئة للأجيال القادمة ها هم اليوم يلتفون على مبادئ وخيارات الشعب التي ليس أولها ديمقراطية اختيار الشعب لحاكميه، والاحتكام لوثيقة دستورية تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، واستحقاق الدولة المدنية الضامن للتداول السلمي على السلطة، والفصل بين السلطات الثلاثة التي لا عبرة لها ولا قيمة متى تغوّل العسكر وانقلب على إرادة الأمة لتصير السلطة السياسية والقضائية والتنفيذية رهن بندقيته.
ولعلهُ من الخطير جدًّا الترويج لعسكري تشرب الانقلابات حتى بشِم، وتصويره على أنه انقلب فجأة لسياسي ديمقراطي وخلع بزته وتقدم ليترشح لرئاسة الدولة، هذا لا أراه شخصيًّا إلا من خلال قصيدة شوقي التي قال في مطلعها :- (برز الثعلبُ يوماً في شعار الواعِظينا) وتعرفون تتمتها.
لذلك فإن الحكم العسكري أو ذاك الذي يظهر مقنّعًا في ثوبٍ مدني فيما لو تمكن من البلاد والعباد، لا قدر الله، فهو بمثابة الإجهاز على الحلم الذي لم يكتمل، والأمل الذي يراود كل متعطشٍ لدولة مؤسسات ودستور وقانون وعدالة وحرية؛ لكون العسكر حين يتمكن من الحكم سيضع كل تلك المبادئ المشروعة تحت أحذيته بل وأعناق الحالمين بها كذلك ليدوسها جميعًا.
كل النماذج العسكرية الانقلابية التي وصلت للسلطة لم تصلها إلا بالقوة والدماء، ولم تتركها إلا وهي مخلفة بحيراتٍ من الدماء ورائها، ولا أوطان تنميها وتعمرها ولا إنسان تبنيه، بل تترك خلفها الجهل والتخلف والقهر، ذلك أن العسكر الذي يتشرف به الوطن والمواطن هو العسكر الذي ينأى بنفسه عن السياسة والعمل فيها لكونها ليست مهمته، وأن مهمته السامية تنصرف لحماية إرادة الشعب ودستوره وكيان دولته وحدودها وسيادتها.
حفظ الله بلادنا وأعاننا على تتويج تضحيات شعبها بدولةٍ مدنيّةٍ واعدة، وبجيشٍ يكون مؤسسةً مؤتمنةً على إرادة الشعب، خاضعًا لسلطة الحكم المدني لا قافزًا عليها.