علي أبوزيد/ كاتب ليبي
مثّلت ثورة السابع عشر من فبراير مرحلة جديدة في تاريخ ليبيا، حيث اعتُبرت إعلاناً لأفول عهدٍ قاتمٍ من الدكتاتورية والطغيان، وإشراقاً لآمالٍ عريضة في إقامة دولة المؤسسات والقانون والعدل والحرية، وقد استطاع الثائرون على حكم الاستبداد والظلم أن ينتصروا عليه في فترة وجيزة في ملحمة أبرزت معادن النُّبل والتضحية والشجاعة في هذا الشعب والتي تراكم عليها الصدأ ممارسات الدكتاتور طيلة أربعة عقود ونيّف.
لقد استطاعت فبراير أن تنتصر في سياق المواجهة مع الدكتاتورية مبكراً، ومن ثَمَ وجدت نفسها في سياق مواجهة مع الذات، وهنا يجب الحديث بشيء من المصارحة والمكاشفة إذ الحديث عن الذات ومعها يحتاج إلى درجة عالية من الصدق، فقد كان التصور السائد عند الكثير ممن ساهموا في فبراير أن أصعب مساراتها هو إنهاء حكم الفرد والتخلص من الاستبداد، إلا أن فبراير كانت بمثابة الجرعة القوية من الدواء التي تغلغلت في أقاصي خلايا جسدنا الليبي فاستثارت كامن عللنا وحرّكتْ ساكن أدوائنا، وبدأنا نكتشف مدى الهشاشة والضعف الذي نعانيه كمجتمع ودولة، وظهر واضحاً الفراغ المخيف في منظومتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والذي تركه نظام سبتمبر، بعد أن ملأه بأوهام الوحدوية وزيف الأمجاد وأضغاث الحرية.
لقد بدأت ترتفع وتيرة الاضطراب في سياق المواجهة مع ذواتنا منذ إعلان الانتصار على منظومة الدكتاتورية، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع تتكشف، كانت أدواته بداية في المغالبة والتصارع ضمن إطار العمل السياسي في ظل غياب الخبرة، وانعدام المرجعية الواضحة، وسيطرة الانتهازية على سلوك الكثيرين، وتفشي أنواع الفساد، وتطور الصراع فيما بعد ليبلغ الصدام المسلح ويحدث موجات من النزوح الداخلي، ويُعمل سكاكينه في النسيج الاجتماع تقطيعاً وتجريحاً، وقد كان لمختلف تطورات الأحداث أسبابه الآنية التي أدت إليها، والتي يتحمل مختلف الأطراف جزءاً من مسؤوليتها كلٌّ بحسبه، ولكن يبقى سبب رئيسي هو الأهم الذي نتغافل عنه ولا نلقي له بالاً المتمثل في رواسب الاستبداد من جهل وتخلف وتفشٍّ للفساد وغياب لمنظومة الشفافية والنزاهة.
إننا في فبراير منذ أن صرنا في سياق المواجهة مع ذواتنا كمجتمع وشعب ودولة انصرفنا عن هذه المواجهة وانشغلنا بمعركة وضع العصا في الدولاب لكل من يحاول الدفع إلى الأمام، وبدأنا نؤسس لدكتاتورية من نوع آخر، دكتاتورية النخبة والتيار، دكتاتورية تسعى فيها كل مجموعة أن تحكم وحدها ساعيةً لإقصاء غيرها وإبعاده، وتمّ استدعاء العسكر والقبيلة وتوظيف الخطاب الديني المتطرف وتدوير الآلة الإعلامية في هذه المعركة الطاحنة التي أكلت من ذواتنا، ونخرت في عظامنا، وأتت على ما تبقى من مؤسسات الدولة وشوهت فكرة الثورة وما تحمله من بشائر التغيير للأفضل، وجعلت الناس يحنّون إلى عهد الاستبداد الذي يأمنون فيه على أنفسهم وأقواتهم وإن أُهدرت كرامتهم.
إن المقصود بالمواجهة مع الذات هو تحسس المجتمع لعلله وأمراضه ساعياً في علاجها والبحث في أسبابها محاولاً القضاء على جرثومة الداء وحسم مادة البلاء، ولا خلاف أننا طيلة عقود الاستبداد استقرت فينا من رواسبه وجراثيمه ما يجعل من مواجهة أنفسنا بسلاح الوعي وحسن الإدراك ضرورة وأمراً لازماً، وهذه المواجهة لن تقودها إلا طليعة المجتمع من أبنائه الواعين بأهمية إعادة صياغة الخطاب والوعي في المجتمع على مبادئ التعايش وقبول الآخر، والاحتكام إلى القانون من خلال أدواته ومؤسساته، ورفض نهج المغالبة والإقصاء، واحترام التعددية، وترسيخ مفهوم الحريات والحقوق والتداول السلمي على السلطة ضمن إطار خصوصيته، وبما يتوافق مع هويته وانتمائه.
إن وجود هذه الطليعة في المجتمع أمر لا بدّ منه لإرساء هذه المبادئ والمفاهيم التي بها يستقر نظام الدولة وعلى أساسها يتماسك المجتمع، وهنا يأتي دور منابر الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية التي يجب أن تدفع بهذا الاتجاه وتوليه جزءاً كبيراً من اهتمامها.
وأخيراً فإن سياق المواجهة مع الذات بعد فبراير كان عنيفاً وحاداً، ولكن هذه المواجهة أثبتت مدى صلابة هذه الذات وإمكانية التعويل عليها بشكل كبير، فرغم الانقسام السياسي الذي طال أمده وأثر على الوضع الاقتصادي، ورغم الصدام المسلح في كثير من بؤر التوتر وغياب وضعف سلطة القانون، ورغم ما نُكب به النسيج الاجتماعي من شروخ وجراحات، ما زال الجميع يصرّ ويتمسك بوحدة ليبيا ويرفض تقسيمها، وبدأ الوعي يترسخ بأن الحوار هو سبيلنا لحل مشاكلنا وخلافاتنا، وهذه كلها مؤشرات على أن حسم معركة الوعي لصالح ليبيا وفبراير ما زال ممكنا ويمكن إدراكه متى صدقت النفوس وأخلصت النيات.
__________________________
المصدر / ليبيا الخبر