مصطلحات كثيرة يزدحم بها الخطاب السياسي في منابره المختلفة، وتتلقفها عقول الجماهير وقد لفّتها ضبابة من الغموض وعدم الوضوح لاحتمالاتها دلالات متعددة ووقوعها في سياقات كثيرة قد تكون متباينة وأحياناً متناقضة، ولعل من أكثر هذه المصطلحات شيوعاً مصطلح “الوطنية”.
فلا يتردد أي ممارس للسياسة سواءٌ كان فرداً أم تياراً في نعت نفسه بالوطنية، وادّعاء مراعاتها في نهجه وسلوكه السياسي، كما أن كثيراً من هذه الشخوص والتيارات تنزع هذه الصفات عن غيرها من المنافسين السياسيين محاولة الاستئثار وحدها بعباءة الوطنية والتدثر بها.
وإن أردنا أن نحدد مفهوم هذا المصطلح في إطاره النظري فيمكن أن نقول هو صون سيادة الوطن والخضوع لقانونه ومراعاة مصلحته وعدم الإضرار به، فإذا أردنا أن نتلمس الجانب التطبيقي من هذا المصطلح فإننا سنجد كل المنخرطين في الممارسة السياسية يؤكدون على المبادئ النظرية آنفة الذكر، وأنهم يبررون أفعالهم ومواقفهم بكونها منسجمة تمام الانسجام مع هذه المبادئ، ولا غرابة في ذلك إذ إن هذا من مقتضيات العمل السياسي القائم على تبرير المواقف وتحميلها على الدافع الأخلاقي، فحتى أشد الممارسات السياسية عنفاً وتطرفاً (الحرب) لابد أن يكون لها في الخطاب السياسي مبررها المنسجم ومقتضيات المصلحة الوطنية ودافعها الأخلاقي المتستر على تجاوزاتها وبشاعتها.
ومهما يكن فإن وجود الوطنية كمصطلح ومفهوم، لابدّ منه في الخطاب والممارسة السياسية، إلا أن تكريس وضعه في بعض السياقات لا يعدو كونه تلاعباً بعقول الجماهير وممارسة للدجل السياسي السافر، وفي محاولة بسيطة لرصد بعض السياقات التي تستخدم فيها الوطنية بهذا الأسلوب الساقط، فسنجد أبرزها في استخدامه كمبرر للاستبداد والنظام الشمولي القائم على حكم الفرد أو الحزب الواحد، فالتعددية عند هؤلاء تهدد أمن الوطن لأنها تثير الفتن والشرور، فعلى كل وطني غيور أن يساند الحاكم المستبد ليحافظ على أمن البلاد واستقرارها الذي سيتزعزع بتزعزع حكمه، كما أن التبرير بالوطنية لحكم العسكر وتمكينهم من السلطة مما راج في الخطاب السياسي إذ إن سيادة الوطن وكرامته لن تصان إلا بوجود العسكر في السلطة ودوسهم بأحذيتهم كرامة المواطن.
وهناك سياق ثالث، وهو أشهر السياقات استخداماً وأكثرها مغالطةً، وهو وضع تيارات الإسلام السياسي في سياق التضاد والتقابل مع التيار الوطني الذي تمثله التيارات الأخرى بطبيعة الحال، والحجة في ذلك أن المرجعية الإسلامية لهذه التيارات ارتباطاتها مع قوى الإسلام السياسي في الدول الأخرى؛ مما يجعلها تقدم المصالح الإقليمية على المصلحة الوطنية، ويجعل الوطن مرتهناً لجماعة أو تيار عالمي، ولا شك أن هذه مغالطة قد راجت واقتنع بها كثير من الناس، ولكن لنتساءل هنا: أليس لكل تيار سياسي في أي دولة مرجعيته الفكرية التي يشترك فيها مع غيره من التيارات السياسية الفاعلة في دول العالم الأخرى، ومن حقه أن يتعاون معها على ترسيخ مبادئهم ومنطلقاتهم المشتركة؟ وقد رأينا ذلك بارزاً في تعاون أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، ولم نسمع أحداً من ساستها نعتهم بانعدام الوطنية وخوّنهم، ثم أين أصوات هؤلاء الوطنيين ـ وفيهم عروبيون وقوميون – أيام كانت أنظمة الاستبداد القومية حاكمة؟ ألم تكن مشاريعهم عابرة لحدود الوطن وأضرت به في أحيان كثيرة؟ والعجيب أن بعضهم ما زال يذكر تلك المشاريع الفاشلة بشيء من الحسرة على مجد قد انثلم؟ كما أن ادعاء تلازم تعارض المرجعية الإسلامية مع مبدأ الوطنية تلازم باطل؛ فإن التيارات الإسلامية وإن كانت في أدبياتها تؤكد على أن رابط العقيدة أقدس الروابط، فإنها تؤكد على الدوام حرصها على الوطن والحفاظ على مصلحته، وقد تجلى هذا في دولة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم – حينما عقد صلح الحديبية مع قريش حيث التزم بردّ من أتاه من مسلمي مكة المستضعفين إيفاءً بما جاء في عقد الصلح وهو ما تقضيه المصلحة العامة (مصلحة الدولة).
إن الوطنية في حقيقتها ليست إلا إطاراً عاماً ومرجعية مشتركةً للمنافسة السياسية تسعى فيه مختلف التيارات لتحقيق مصالحها ضمن هذا الإطار ولا تتعداه، ولا يمكن بأي حال أن تكون مرجعاً وحيداً ومحتكراً لأي تيار سياسي إلا في خطب الدجل والتزييف على الناس من بعض التيارات التي تعيش حالة من التيه وانعدام المرجعية في السلوك السياسي، لذلك تكاد تكون هي وحدها المستخدمة له بهذا التوسع والاستغلال.
المصدر/ موقع ليبيا الخبر.