لا خلاف أن الاتفاق السياسي ولد ولادة عسيرة وصعبة، وجاء في أجواء مشحونة ومحتقنة بخلافات وتباينات شديدة، انعكست على نصّ الاتفاق وروحه، مما جعل الاتفاق يشوبه كثير من القصور والخلل، ومع ذلك فقد عكس هذا الاتفاق الواقع السياسي القائم، وحقق الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه.
كان هدف الاتفاق السياسي هو الخروج من حالة الاحتقان والانقسام السياسي برسم خارطة طريق زمنية يتم من خلالها وفيها توحيد المؤسسات المنقسمة، وتحقيق حالة من الاستقرار والتعافي تنتهي بإقرار الدستور، وتهيئ المناخ السياسي لإجراء انتخابات عامة تنتج أجساما تشريعية وتنفيذية جديدة بعيدة عن تنازع الشرعية، وترسخ الاستقرار المؤسسي في الدولة.
ونتيجة لتعنّت مجلس النواب –أحد الأطراف الرئيسية في الاتفاق- وعدم إيفائه بالتزاماته المترتبة على توقيعه على هذا الاتفاق، تعطّل تنفيذ هذا الاتفاق جزئياً، مما أصاب العملية السياسية قاطبة بالشلل، ولم يحقق الاتفاق أياً من أهدافه، بل تفاقمت معاناة المواطن، وتكرّس الانقسام المؤسسي، وانعكس الأمر على الوضع الاقتصادي بشكل عام.
وبتولي السيد غسان سلامة مهام المبعوث الأممي إلى ليبيا، سعى جاهداً إلى إعادة الحياة للعملية السياسية المتوقفة، ودعا أطراف الاتفاق إلى تعديله وقدم مبادرة ترتكز على الاتفاق السياسي بعد تعديله، وتحاول اختصار الوقت في الوصول إلى حالة الاستقرار والتعافي التي يمكن أن تجرى فيها انتخابات.
وهنا لابدّ أن نشير إلى أمور مهمة منها: أن الاتفاق السياسي رغم كل ما يمكن أن يقال فيه إلا أن تضمينه آلية تعديله أكسبته مرونة وفعالية تجعله يتكيف مع تطورات الأزمة السياسية.
كذلك يجب الإشارة إلى أن تعديل الاتفاق السياسي جاء بالدرجة الأولى استجابة إلى مطالبات مجلس النواب – الطرف المتعنت والذي لم يوفِ بالتزاماته -، ورغم مشاركته في جولات الحوار لتعديل الاتفاق ما زال مجلس النواب يصر في ممارسته السياسية على عدم الاعتراف بالاتفاق السياسي، وآخر هذه الممارسات تعيين محافظ لمصرف ليبيا المركزي دون الرجوع لمجلس الدولة.
كما أن التأكيد الدولي على اعتبار الاتفاق السياسي هو الإطار الوحيد للخروج من الأزمة يكسب الأطراف المتمسكة به زخماً وثباتاً في الموقف لم يتمّ استثماره سياسياً كما ينبغي.
إن المرونة العالية التي حظي بها مجلس النواب إزاء تعنته المفرط ينبغي أن تتوقف؛ لأن الاستمرار فيها بعد أن أثبتت عدم جدواها ليست إلا ضرباً من السذاجة السياسية، خاصة أن مجلس النواب غير منتظم وجلساته تلحقها شبهة عدم القانونية.
لذلك فإن الوقت ملائم لتصعيد الخطاب السياسي مع مجلس النواب والأطراف المتعنتة، واستثمار الإجماع الدولي حول الاتفاق السياسي بفرض عزلة دولية عليها، وممارسة أقصى درجات الضغط.
كما لا يمكن أن نتجاوز ونحن بصدد الحديث عن الاتفاق السياسي انتهاء المدة المقررة للاتفاق السياسي التي انقضت يوم 17 ديسمبر الماضي، فرغم تأكيد المبعوث الأممي والأطراف الدولية الداعمة للاتفاق بقاءه إطاراً مرجعياً لحل الأزمة في ليبيا، خرج قائد عملية الكرامة خليفة حفتر معلناً انقضاء الاتفاق السياسي –الذي لم يعترف به- معلناً عن عدم خضوعه وقواته إلا لسلطة منتخبة، وهو بهذا يؤكد النهج الانقلابي والمضي في مشروع العسكرة.
إن الجميع يدرك جيداً أن إمكانية إجراء انتخابات نزيهة وشفافة في حالة الانقسام والفوضى القائمة وفي ظل غياب دستور دائم أمر بعيد الإمكان، وإن حدث فلن يكون إلا إعادة لتدوير الفشل، وتموضعا جديدة للفوضى والأجسام الموازية التي ستجزّئ المجزّأ وتقسّم المقسّم، ولكن لماذا هذا الاستعجال للانتخابات غير الممكنة؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تستدعي التأمل في أحوال المستعجلين لها، فهي تمثل بوابة عودة لبعض شخصيات النظام القديم خاصة من أنصار سيف الإسلام القذافي الذين يريدون الدفع به في العملية الانتخابية، كما أن إجراء انتخابات دون المرور بالمرحلة الانتقالية ستضمن بقاء مراكز السلطة في وضعها الحالي مما يسمح لها بعدم التسليم والطعن في صحة الانتخابات مما سيراكم الفوضى، كما أن الدعوة للانتخابات شبه المستحيلة في الوقت الراهن يوفر الوقت لأصحاب المشاريع الموازية ويساعدهم في تغيير الظروف لصالحهم.
إن تفعيل الاتفاق السياسي –عُدّل أم لم يعدّل- كاملاً يبقى هو الضمانة الوحيدة لإيجاد مرحلة انتقالية تتوحد فيها المؤسسات، وتكسب الوطن شيئاً من الاستقرار والتعافي ليقرّ دستوراً دائماً يخوض بناءً عليه انتخابات حرة ونزيهة، وكل مبادرة أو دعوة خارج هذا الإطار هي لإضاعة الوقت ولن تخدم الوطن والمواطن بشيء.
___
المصدر/ موقع ليبيا الخبر.