زيارة الدكتور محمود جبريل الأخيرة إلى طرابلس أعادت إلى المشهد السياسي ما يُعرف بالتيار المدني –كما يحب أن يلقب هو نفسه-، وهنا لابد من وقفة مع هذا التيار ومع هذه العودة.
وقبل الوقوف عند هذا التطور يجب أن نلفت النظر إلى أن تيار الإسلام السياسي منذ الربيع العربي تعرض للنقد والتشويه وسخرت الآلة الإعلامية لمحاربته وأقصي في بعض الأحيان بتدخل العسكر وسُحق بدباباتهم، إلا أن هذه الحملة الواسعة أدخلت تيار الإسلام السياسي في حالة من المراجعة للمواقف وإعادة التقييم للواقع مما جعله أكثر انفتاحا وأوسع أفقاً في الرؤية السياسية وأصبح أكثر اتزاناً في خطابه وأقدر على الممارسة السياسية في مختلف أدوارها، والمتابع المنصِف للسلوك السياسي لحزب العدالة والبناء منذ تطور الأزمة الليبية في 2014 يرى ثباتاً في النهج السياسي المنحاز للتوافق والملتزم بالحوار من خلال المبادرة الأممية كحل وحيد للخروج من الأزمة، وهذا بلا شك كانت له تداعياته الداخلية على الحزب وتكلفته العالية في إحداث تصدعات في جسمه إلا أنه أضاف إلى رصيده وراكم من خبرته، وهذه الوقفة ضرورية عند محاولة تلمس معالم العودة الجديدة لتحالف القوى الوطنية الذي يقدم نفسه كبديل ومنافس لتيار الإسلام السياسي لتكون المقارنة حاضرة في ذهن القارئ.
يعتبر تحالف القوى الوطنية الواجهة السياسية لما يعرف بالتيار المدني في ليبيا، ونحن إذا ما حاولنا تلمس المرجعية الفكرية والإطار التنظيري لهذا التيار فإن الأمر يشبه إلى حد بعيد محاولة تحديد أبعاد هندسية لكتلة هلامية غير ثابتة، ومرجع ذلك إلى أن تشكل هذا التيار سياسياً جاء في خضم حالة ثورية بعد عقود من حكم الفرد المستبدّ، فولد هذا التيار في حالة من عدم النضج والاكتمال وبتكتل غير متزن من خلفيات متعددة وبرؤية ضبابية، وبدخوله معترك السياسية لم يكن له من مشروع إلا معاداة تيار الإسلام السياسي تماهياً مع ظروف المنطقة وانجراراً خلف الخطاب الإعلامي العام الذي صعّد ضدّ التيار الإسلامي، وهنا يجب التأكيد على نقطة مهمة، هي أن التيار المدني كان الأوسع انتشاراً في الإعلام بأسبقيته في إطلاق القنوات الفضائية التي أججت الصراع وصعّدت من الخطاب التحريضي بين القوى السياسية، مما أدى إلى حالة اصطفاف تفاقمت فيما بعد إلى صراع مسلح ومحاولة انقلاب عسكري وإنتاج دكتاتورية جديدة.
تطورت الأحداث سراعاً وبرز مشروع الكرامة الذي جعل من محاربة الإرهاب واجهة للقضاء على تيار الإسلام السياسي وبوابة لعودة العسكر إلى السلطة، وبارك التيار المدني وواجهته السياسية هذا المشروع وأيده، وأكد رئيس التحالف في تلك الفترة أن أي اتفاق سياسي يكون مجلس النواب طرفاً فيه يجب ألا يتم إلا بعد التنسيق مع “الفريق حفتر” –كما كانت رتبته العسكرية آنذاك- والقيادة العامة لجيشه.
لم يأت مشروع الكرامة بما أمّله التيار المدني ولم يستفد منه إلا شخص حفتر الذي تمكن من حلّ المعادلة القبلية لشرق ليبيا وكسب بذلك ولاء مشايخ قبائله، وأحسن توظيف الخطاب الديني بتمكينه للتيار السلفي المدخلبي من المؤسسة الدينية، الأمر الذي أدى بالتيار المدني إلى التراجع إلى الظل دون أن يكون له أي دور حقيقي أو مؤثر.
لقد أدرك التيار المدني بواجهته السياسية المتمثلة في تحالف القوى الوطنية انعدام فرصة الممارسة السياسية ضمن مشروع الكرامة، فتراجع عن واجهة المشهد ثم انسحاب منه في غير إعلان، وبانعقاد مؤتمر تحالف القوى الوطنية العام في تونس –وليس الشرق الليبي- الصيف الماضي انطلقت العودة السياسية الجديدة للتيار المدني، وتمت إعادة انتخاب الدكتور محمود جبريل رئيساً له وأعلن عن إطلاق مبادرة لحل الأزمة الليبية، وكالعادة لم يجد التيار المدني من سبيل للعودة إلى ليبيا إلا من بوابة العاصمة طرابلس الواقعة في أسر مليشيات الإسلاميين –كما كان يزعم-.
وهنا لابد أن يعي التيار المدني أن استقواءه بالعسكر وارتماءه في أحضانه لن يكون منه في المحصلة إلا خروجه هو من المعترك السياسي، وأن الإسلام السياسي المؤمن بالممارسة السياسية مهما كان راديكاليا لن يستطيع إقصاء التيار المدني لعدم مقدرته على تجاوز آليات العملية السياسية، لذلك فإن بقاء الغرب الليبي خارج سيطرة مشروع الكرامة هو ما أعاد التيار المدني للحياة السياسية ووفّر له البيئة الملائمة لبعثه من جديد.
وبالعودة لهذه الانطلاقة الجديدة للتحالف يلفت نظر المتابع السلوك غير الواعي والبعيد عن الواقعية الذي يمارسه التحالف ويبرز في خطاب رئيسه الدكتور جبريل، فبغضّ النظر عن التوازي الحاصل في مبادرة التحالف مع مساعي المبعوث الأممي ومقترحاته، فإن السيد جبريل الذي يقدم نفسه رئيساً لحزب التحالف –كما في خطابه في نيويورك- يريد أن يلعب دور المسؤول في السلطة التنفيذية من خلال ما صدر عنه في تحركاته الدولية خاصة في زيارته الأخيرة للسودان، وهذا إضافة إلى تنافيه مع الممارسة الحزبية يرسخ صورة السيادة المبعثرة للدولة الليبية.
إن السيد جبريل يدرك جيداً أن مبادرة تحالفه صعبة التجسد على أرض الواقع، وهي ليست سوى أداة لإعادة تشكيل التحالف وإيجاد موطئ قدم له في العاصمة طرابلس بعد أن تلاشت آمال العودة من الشرق على رأس جحافل الكرامة، ومع ذلك يحرص السيد جبريل وتحالفه على تجنيب خطابهم أي تعرض للكرامة قيادتها والاكتفاء بغض الطرف عنها لعله يحتاجها عن قريب.