مكالمات هاتفية تستحق الاهتمام، هي تلك التي دارت بين اللواء عون الفرجاني الذراع الأيمن لخليفة حفتر، والرائد محمود الورفلي أبرز قادة الكرامة والمتورط في جرائم تصفية علنية لمن يتهمهم بالانتماء إلى تنظيم الدولة، حتى صار على إثرها مطلوب القبض عليه دوليا.
المكالمات كانت أقرب إلى الشكوى المتضمنة تهديدا، والتي لم تخل من حالة قنوط، في مقابل محاولات مضنية من قبل عون الفرجاني ليجعل الحوار متكافئًا ومتوازنًا.
ولا نقول منضبطًا باعتباره صاحب الرتبة العسكرية الأعلى والمنصب الحساس، فقد كان محمود الورفلي كالسيل الهادر يكيل التهم والسِبَاب تِباعًا فيما كان كلام عون لمجرد الاستفسار والتهدئة.
الورفلي ابتداء تخطى حدود المسؤولية العسكرية في مخاطبة مرؤوسه، وتخطى حدود اللياقة مع من هو أكبر سنا منه، فقد تلفظ بما لا يليق بضابط في الجيش فضلا عن شخص متدين ينتسب لتيار السلف.
الأهم أنه ومع جرأة وقبح كلام الورفلي، لم يستطع عون حتى الاحتجاج أو ردعه عن التطاول، ولهذا دلالاته والتي منها اختلال العلاقات داخل الجيش التابع للبرلمان، والشعور بخطورة الموقف وأن الورفلي قادر على إثارة زوابع قد يكون لها أثر مضاعف في ظل الربكة الكبيرة في معسكر الكرامة بعد الصدع الذي خلفه النقيب فرج اقعيم، وقبله الرائد محمد الحجازي، وقبلهما العقيد فرج البرعصي، وجميعهم قادة مبرزون في عملية الكرامة.
إذا عنوان المكالمة من جانب الورفلي هو الغضب الجامح واليأس القاتل، فالغضب ظاهر على طول المحادثة، أما اليأس فقد لخصه بقوله إنه ميت وسيجعل ميتته خاصة ومدوية، وذلك باللفظ الذي استخدمه والذي يصعب ذكره هنا لفحشه.
خروج الورفلي عن النص لم يكن شجاعة بل تهورا، فقد ورط نفسه بسيل الاتهامات الكبيرة التي عمت مراكز قوة في الكرامة والجيش، فهو خطاب اليائس الذي يوقن بأنه أصبح كبش فداء لإبعاد قيادة الجيش عن الملاحقة من قبل محكمة الجنايات الدولية.
أيضا يكشف كلام الورفلي عن ضعف سياسي شديد، أو حتى مجرد فطنة تمنعه من أن ينزلق منزلقا يجعله في فوهة المدفع وأمام إزاحة قادمة لا محالة حتى لو تأخرت أو بدا أن غبار الأزمة قد تلاشى.
جرأة الورفلي على حفتر بشكل مبطن، وتطاوله بكلام صريح على أبنائه وعلى ذراعه الأيمن عون الفرجاني وآخرين متنفذين، وسبهم بلفظ مقذع “كلاب”، واتهامهم بالتآمر لا يمكن أن يمر وكأنه لم يقع، فهذا ما وقع لقعيم بعد تطاوله وتمرده، إذ لم تنفع توبته، وكان لابد من كسر شوكته، وقد حدث.
من جهة أخرى، فإن دوافع كسر شوكة الورفلي أقوى كونه مطلوب بالاسم من قبل القاضي الدولي، وليس لديه ما يحميه من ردة الفعل على تطاوله من قبيلة في بنغازي، فلم ينفع انتساب اقعيم للعواقير، أكبر قبائل البدو في المدينة، ليلقى المصير الذي واجهه.
يعول الورفلي على الضباط والجنود، كما أنه أشار في المكالمة بالقول إن هناك خمسة آلاف من المتململين في الجيش، ولا أظنهم يسعفونه، فلم يجد اقعيم السند إلا من بضع عشرات، وقد كان تحت إمرته ما يقرب من ألفي عنصر من قوة المهام الخاصة ووزارة الداخلية ومعظمهم من بني عمومته.
أما الرأي العام في بنغازي، الذي ذكر الورفلي أنه يدعمه، فلن يصطف مع الورفلي وهو اليوم في مواجهة مع حفتر وأبنائه وحاشيته، وبالتالي فإن الورفلي بتطاوله الكبير وضع نفسه في العراء في مواجهة من لن يتوانوا عن الفتك به.
تحمل الورفلي المسؤولية عن جرائم القتل خارج القانون بشكل مباشر باعتداده بنفسه، وقوله إنه قام بعمل مشرف.
وجاء في حديثه بخصوص تلك الجرائم كلام صريح أنه تلقى إذنا بالقيام بها، بقوله أنه ينفذ الأوامر الصادرة ومنضبط عسكريا بدرجة كبيرة.
فإذا كان الورفلي يرجع لتلقي التعليمات من حفتر في كيفية التصرف في مصنع رخام تعود ملكيته لعائلة يتهمونها بدعم الدواعش كما ذكر في المكالمة الثانية، فهل يمكن أن يقدم على سلسلة من التصفيات العلنية والمبرمجة دون إذن؟!
اللقطة اليتيمة في نظري التي تكشف عن درجة من التعقل في كلام الورفلي أنه لم يذكر خليفة حفتر بسوء بشكل مباشر وصريح خاصة عندما تطرق لخضوعه للتعليمات العسكرية من مستويات أعلى فيما قام به، غير أنها قد تضيع في سيل التطاول خاصة ضد أبناء المشير، وتهديده بحرق الأخضر واليابس في حال شعر بخطر يحدق به.
وأخيرا، فإن مضمون المكالمة يشكل في مجمله عاملا آخر من عوامل تفكك عملية الكرامة كونها مظلة واسعة لمجاميع قبلية ونخبوية وشبابية وعسكرية…إلخ.
ومؤشرا إضافيا على انتقال حفتر في مشروعه الزعامي إلى مرحلته الثانية وهي مرحلة تثبيت دعائم نفوذه بانتقاء الأنصار الموالين بدون قيد أو شرط، وإبعاد الذين لديهم قابلية التمرد أو التطاول أو مجرد التشكيك في مشروعه أو التشكيك في خياراته والتي منها تقديم أبنائه وبني عمومته والموالين له بإطلاقٍ لقيادة الجيش والأجهزة الحساسة.