كان مجلس النواب الليبي بطبرق يرى أنه تم انتخابه من قبل الشعب الليبي في يونيو/حزيران 2014، بينما كان يرى المؤتمر الوطني العام أنه مازال الجسم الشرعي طبقاً لأحكام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا التي حكمت بانعدام مجلس النواب.
أعلن حفتر عملية الكرامة قبل انتخاب مجلس النواب بخمسة أشهر، وهو لا يزال لواء متقاعداً، كما أعلنت القوات التابعة للمؤتمر الوطني العام عملية فجر ليبيا، للتصدي لهذه المحاولة الانقلابية.
انقسم المجتمع الليبي على كل المستويات، السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعسكرية. فأصبح لدينا مجلسان تشريعيان، وحكومتان، وجيشان، وثوار 17 فبراير هنا، وثوار هناك، وأصبح لدينا نواب مقاطعون للبرلمان، وأعضاء مؤتمر مقاطعون لجلساته.
اقتتلت الأطراف، وحصدت الحرب العديد من الأرواح، ودمرت العديد من المنشآت، ووجد الإرهاب مساحات ليتمدد فيها، وراج الخطف والسرقة بالإكراه، وازدهرت الجريمة المنظمة، واستبيحت الحدود، وراج الاتجار بالبشر، وأصبح بحر ليبيا معبراً لقوارب الموت التي تحمل المهاجرين إلى حتفهم.
أمام هذا الواقع المؤلم، وفي ظل عجز أي من الأطراف عن الحسم العسكري الكامل، أصبح جلياً أن الحل لم يعد عسكرياً ولا قانونياً، وأنه لا مفر من الحل السياسي. جلس المتحاورون، وتوصلوا إلى اتفاق سياسي برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
وافق غالبية أعضاء مجلس النواب وأغلبية أعضاء المؤتمر على الاتفاق السياسي الليبي، وعارضه رؤساء الجسمين، النواب والمؤتمر، بل حاولوا عرقلته وصادروا إرادة الأعضاء. أصدر ما يزيد على 100 عضو من أعضاء مجلس النواب بياناً داعماً للاتفاق، وأدانوا فيه مصادرة إرادتهم ومنعهم من التصويت.
كما حدث الأمر ذاته في المؤتمر، حيث عبّر أغلبية أعضائه عن رفضهم لمصادرة رئيس المؤتمر السيد بوسهمين حقهم في التعبير عن إرادتهم الحرة، واعتبروا هذه المصادرة تعطيلاً لعمل المؤتمر، ويلحقه بحالات العجز والتقصير الشديد التي تجيز تجاوز الرئيس.
سوّغ ذلك للنائب الثاني لرئيس المؤتمر الوطني العام الدكتور صالح المخزوم الدعوة إلى عقد الجلسة الأخيرة التي تم فيها تعديل الإعلان الدستوري وإنهاء أعمال المؤتمر الوطني العام، بانعقاد الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للدولة طبقاً للاتفاق السياسي الليبي الذي أصبح جزءاً من الإعلان الدستوري بموجب هذا التعديل.
أثارت هذه الجلسة لغطاً كبيراً من جماعة التيار المدني العسكري (دعاة العسكرتاريا)، وكذلك من جانب أعضاء المؤتمر الوطني العام المعارضين للاتفاق السياسي الموقع بمدينة الصخيرات المغربية، فلماذا؟
هل المشكلة في تعديل المؤتمر للإعلان الدستوري؟ أم في صحة انعقاد جلسته الأخيرة؟ أم في صحة عضوية أعضائه؟ أم في صحة انعقاد الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للدولة؟ أم أن الحقيقة أن هناك مَنْ هو مُستاء من دخول المجلس الرئاسي إلى العاصمة بسلام؟
تعديل الإعلان الدستوري
اتفاق الطائف اللبناني، الذي أشرفت عليه السعودية، شبيه بالاتفاق السياسي الليبي من الناحية الدستورية، غير أن المؤسسات في لبنان لم تنقسم كما انقسمت في ليبيا، فبعد أن قامت الأطراف بتوقيع اتفاق الطائف قام مجلس النواب اللبناني باعتماده وإقراره، فأدخل بعضه في صلب الدستور اللبناني وصار باقي الاتفاق مثله مثل باقي القوانين العادية.
فلو تمت صياغة الاتفاق السياسي الليبي كإعلان دستوري جديد لا يستند إلى الإعلان الدستوري القائم وآلياته في التعديل، لما كانت هناك حاجة لتضمين الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري، ولا لاتباع آلياته في التعديل.
وحيث إن ذلك لم يقع، فإن السمو مازال للإعلان الدستوري، ونصوصه تشير إلى كيفية تعديله. وحيث إن حكمي الدائرة الدستورية رقم 16/61ق و17/61ق قد نصَّا بكل وضوح على انعدام مجلس النواب، وأن المؤتمر الوطني العام هو الجسم التشريعي الوحيد في البلاد، فإن اختصاص تعديل الإعلان الدستوري ينعقد للمؤتمر دون غيره.
الغريب في الأمر أن محكمة اتحادية عُليا بدولة عربية، منخرطة سياسياً وعسكرياً في دعم مجلس النواب إلى الأذقان، قد أيدت هذا الحكم وقالت بالحرف الواحد إن “مجلس النواب المعارض في حكم العدم ولا يعوّل عليه”، وإن “المؤتمر الوطني العام هو الجسم التشريعي الوحيد في البلاد”.
كان من المفترض أن يفرح الجميع بهذا التعديل، وأن يعد اليوم الذي حدث فيه يوماً تاريخياً، ويعد هو بذاته حدثاً تاريخياً؛ لأنه حقق 3 أهداف ثمينة جداً، فالهدف الأول احترام القضاء وأحكامه، والهدف الثاني هو الحفاظ على المسار الدستوري في البلاد والتداول السلمي للسلطة، والهدف الثالث تضمين الاتفاق وتحصينه من الطعن في دستوريته.
تقييد انفراد البرلمان بالشرعية
بمجرد تعديل الإعلان الدستوري أصبح مجلس النواب الجسم التشريعي الوحيد في البلاد، وهذا مقيد بنصوص الاتفاق وليس مطلقاً، ويعني ذلك أن مجلس النواب هو الجسم الذي يُصدر التشريعات طبقاً لنصوص الاتفاق. فعلى سبيل المثال أي تعديل لاحق للإعلان الدستوري لابد من التوافق عليه بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة ويصدره مجلس النواب كما هو دون أي تعديل، حيث تنص المادة (12) من الأحكام الإضافية على أنه “في حالة اقتضى الأمر إجراء تعديل لاحق للإعلان الدستوري يمسّ الاتفاق أو إحدى المؤسسات المنبثقة عنه بشكل مباشر أو غير مباشر، يلتزم مجلس النواب ومجلس الدولة بالتوافق فيما بينهما على صيغة هذا التعديل، على أن يتم إقراره نهائياً، دون تعديل، من مجلس النواب وفقاً للآلية الواردة بالإعلان الدستوري”.
صحة انعقاد جلسة المؤتمر الوطني الأخيرة
من حق أصحاب المصلحة أن يتقدموا للقضاء للفصل في هذا الأمر. ومع ذلك لا أعتقد أن أحداً سيجرؤ على التقدم للقضاء في هذه المسألة، غير أعضاء المؤتمر الوطني العام المعارضين للاتفاق السياسي الليبي.
الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا ستحكم بصحة الانعقاد أو ببطلانه، لكنها ستؤكد أحقية المؤتمر الوطني العام في إجراء التعديل، وهذا هو الأمر الوحيد المهم. الذي يخشاه تيار العسكرتاريا، وبالتالي لن يتقدم بدعوى ضد صحة الانعقاد.
صحة انعقاد المجلس الأعلى للدولة
صحة انعقاد الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للدولة مرتبطة بصحة انعقاد الجلسة الأخيرة للمؤتمر الوطني العام التي تم فيها تعديل الإعلان الدستوري وتضمين الاتفاق السياسي الليبي، بحيث أصبح له سمو الإعلان الدستوري. وحيث إن الاتفاق السياسي الليبي ينص على أن تعقد الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للدولة في غضون 10 أيام من تعديل الإعلان الدستوري فإن الجلسة تكون صحيحة طالما أنها بُنيت على أساس صحيح، كما ذكرنا سلفاً.
صحة عضوية أعضاء المؤتمر
صوّت في جلسة المؤتمر الوطني العام الأخيرة 93 عضواً، وهو ما يُعادل أغلبية الثلثين التي يحتاجها التعديل، وهؤلاء الأعضاء صحيحو العضوية بحكم النظام الداخلي للمؤتمر، فهم غير مستقيلين، ولم يبُتّ المؤتمر في جلسة مستوفية للشروط القانونية في عضويتهم طبقاً للنظام الداخلي للمؤتمر، ما يعني باختصار أن عضويتهم لا تزال على حالها، وهم أناس نالوا الحصانة بحكم انتخابهم من الشعب.
طرابلس.. اختيار السلام
المجلس الرئاسي هو أحد المؤسسات المنبثقة عن الاتفاق السياسي، وأصبح بعد تعديل الإعلان الدستوري جسماً دستورياً مستمداً سلطته منه ولا يحتاج إلى أي جهة تمنحه الثقة. وهنا تجب الإشارة إلى أنه لا ينبغي الخلط بينه وبين حكومة الوفاق الوطني.
حكومة الوفاق الوطني هي الأخرى جاءت بعد نزاع مسلح، وتم الاتفاق عليها من الأطراف المتنازعة فلا يُعقل أن يُترك أمر منحها الثقة لأحد أطراف النزاع، وبالتالي فإن إجراءات منحها الثقة هي إجراءات شكلية لا غير.
أستغرب كل هذه الضوضاء التي أحدثها تيار العسكرتاريا، وأتساءل: هل هي نتيجة دخول المجلس الرئاسي العاصمة دون قتال؟
لا أشك لحظة في أن دخول المجلس الرئاسي أبطل كل الأكاذيب عن طرابلس، التي كانت تسوّق من على منبر الأمم المتحدة وفي كل المحافل، فجاء الرد صادماً. لكن يا سادة… هذه طرابلس العاصمة التي يقطنها أكثر من نصف الشعب الليبي، والشعب الليبي إذا كانت له الكلمة فلا يختار إلا السلام.
الخطابة الفارغة لا تغير الحقائق
إذا صح بالحجج القانونية التي تؤكدها استشارات من قامات قانونية ليبية عدة أن الجلسة صحيحة، والتصويت صحيح، والعضوية قائمة، والنصاب مكتمل، والتعديل حق، والمجلس الرئاسي دخل العاصمة بسلام ويمارس مهامه طبقاً للإعلان الدستوري، ولا يحتاج إلى من يمنحه الثقة، وعضّدت كل هذا المصلحةُ الوطنية العُليا، ودعمُ طيف عريض من الثوار والشارع، والمجتمع الدولي، فإن التعويل على الخطابة يُعد أمراً فارغاً من المحتوى.