لن يتذكر الشعب الليبي الحر، الذي يرفض الاستبداد، أخطاء المجلس الوطني الانتقالي ولا قصوره ولكنه سيتذكر أنه أقر إعلاناً دستورياً وخارطة طريق وسار بمقتضاها. تحررت البلاد من الاستبداد تحت مظلته، وأجريت الانتخابات بنجاح تحت إشرافه، وسلم السلطة في احتفال شهده العالم في سابقة لم تعرفها ليبيا منذ تأسيسها وحتى اللحظة.
هذا ما سيذكره التاريخ للمجلس الوطني، ولن يتذكر تفاصيل الأخطاء ولا القصور، وإن كان ذلك لا يعفي أي عضو من أعضائه ارتكب أي مخالفة أو تجاوز، فذلك شأن آخر.
من هذا المنطلق فإني أكتب مقالتي هذه إلى رئيس وأعضاء مجلس النواب وإلى رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للدولة، وإلى المعارضين للاتفاق السياسي من الطرفين، أنه رغم المرارات والآلام، أمامكم فرصة فلا تضيعوها وأن أدركوا قبل الفوات. سيذكر الشعب الليبي أنه في عهدكم انقسمت البلاد وانقسمت المؤسسات وأشرفت البلاد الغنية على الإفلاس، أفلس المواطن وتبخرت مدخراته، وأقفلت المشاريع الصغيرة التي يملكها الشباب أبوابها. انسحبت السفارات وتعطلت المطارات، وألغت شركات الطيران الدولي رحلاتها، وانتشرت الجريمة والخطف والقتل وجرائم الحرب، وأصبحنا بسبب خلافاتكم أضحوكة العالم. كما لا يغيب عني في هذا المقال، دعوة كل من وقف ضد هذا الاتفاق، وحتى من خون الموقعين عليه، أنه حتى اللحظة؛ فإن الذين راهنوا على الاتفاق السياسي كانوا أبعد رؤية، وهم في أمس الحاجة إلى دعمكم، من أجل أن تعبر ليبيا إلى بر الأمان، وألا تضيع التضحيات ودماء الشهداء هباء، فهبوا إلى دعم الاتفاق السياسي فإنه، في نهاية المطاف، سيحقق الهدف الذي يسعى إليه كل الليبيين.
الطريق إلى الحل، لا بد في البداية أن أضع الحقائق استنداداً على أدلة دستورية وقانونية بالرغم من قناعتي أن الحل سياسي صرف، ولكن مع ذلك فإن كل الحلول السياسية بحاجة إلى مخارج قانونية.
من هذا المنطلق فإنني أدعو القارئ الكريم إلى إتمام قراءة المقال، ولا يقف عند مفاصله التي لا أشك أننا مختلفون حولها، ولكن لا أرى سبيلا من تجرع مرارتها، بالنسبة للطرف الذي يخالفها، من أجل التوصل إلى حل وإنهاء هذا الانقسام المقيت. منطلقات الحل يبني الحل على الإعلان الدستوري وتعديلاته وأحكام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا واتفاق الصخيرات، وأي حل يغفل هذه الثلاثة، سيكون عرضة للطعن.
فحكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا قائم ولا يستطيع كائن من كان تجاوزه، إلا من خلال إجراءات دستورية جديدة وسليمة، وبالتالي كل ما صدر مخالف لهذا الحكم باطل وبحاجة إلى إجراءات تصحيحية، لم يغفل عنها اتفاق الصخيرات، وسأتحدث عنها لاحقا. اتفاق الصخيرات، بالرغم مما قيل فيه إلا أنه، يعد الوثيقة الوحيدة الصالحة للحل، وهذا ما أجمع عليه المجتمع الدولي، وكان هذا الإجماع بارزاً في جلسة الإحاطة الأخيرة، وأن المبعوث الأممي، الدكتور غسان سلامة، كان واضحاً في أن البعثة تعمل انطلاقاً من المادة (12) من الأحكام الإضافية، وهذه فرصة للمجلسين، وسأتحدث هنا عن أربع مواد أعتبرها الأهم في هذه الوثيقة، وعلى أساسها يمكن للمجلسين العمل معا، من أجل إصلاح ما فات وإنقاذ العملية السياسية: المادة رقم (65) والتي تنص على أنه؛ “يتم تعديل الإعلان الدستوري بما يتفق ونصوص هذا الاتفاق وفقاً للإجراءات المقررة قانوناً ووفقاً للمقترح بالملحق رقم (4) بهذا الاتفاق خلال موعد غايته 20 أكتوبر 2015م.”
ومن المعلوم أن هذه المادة، في المسودات الأولى، كانت تنص على أن مجلس النواب هو الجهة المخولة بتعديل الإعلان الدستوري، ولكن المؤتمر الوطني العام اعترض على ذلك معلّلا اعتراضه بأنه حريص على تحصين الاتفاق السياسي من الطعون مستقبلاً؛ وذلك انطلاقا من أنه الجسم المناط به تعديل الإعلان الدستوري ليصبح الاتفاق السياسي جزءا من الإعلان الدستوري، وبالتالي يصبح أي تعديل دستوري قادم سيكون استناداً على المادة (12) من الأحكام الإضافية. وقد قام المؤتمر الوطني العام في جلسته الأخيرة في 5 أبريل 2016 بتضمين الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري وعقد الجلسة الافتتاحية للمجلس الأعلى للدولة وبذلك يكون الاتفاق السياسي جزءًا من الإعلان الدستوري، وقد كتبت عن هذا الموضوع بالتفصيل في مقال لي نشر على موقع هافنجتون بوست عربي في أبريل 2016، بعنوان “التعديل الأخير للإعلان الدستوري .. حدث تاريخي”[1]. وبالتالي فإن أي تعديل دستوري مستقبلي، لابد وأن يكون وفقاً للمادة (12)، و هذا ما قام به وفدا المجلسين في الجلسات الأخيرة التي شهدتها تونس.
المادة الثامنة من الأحكام الإضافية والتي نقلت كافة الصلاحيات العسكرية والمدنية والأمنية العليا إلى مجلس رئاسة الوزراء وأصبح طبقا لهذه المادة كل هذه المناصب شاغرة ما لم يقم المجلس الرئاسي بتعيينات جديدة. ومن هذا المنطلق فإن توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية وتعديل الاتفاق السياسي كفيل بإنهاء هذه المشكلة من خلال تعيينات جديدة، وفقاً لنصوص الاتفاق السياسي، بعد التفاوض على تعديل الاتفاق السياسي وفقاً للمادة (12)، ومن تم التوافق على هذه التعيينات. المادة (12) وهذه المادة في صالح مجلس النواب بالدرجة الأولى، والذي أصبح منعدما دستوريا طبقا لأحكام الدائرة الدستورية، وبهذه المادة أصبح جسما دستوريا، بل وجعلت منه الجسم التشريعي الوحيد في البلاد، عدا بعض الصلاحيات المنصوص عليها في الاتفاق والتي تتطلب التوافق مع المجلس الأعلى للدولة. وحيث أن التفاوض على تعديل الاتفاق السياسي يتطلب تعديل الإعلان الدستوري والذي قيدته المادة (12) من الأحكام الإضافية فإنه من الضروري التوافق فيما بينهما ويصدره مجلس النواب كما هو.
المادة (14) وهي مادة متغافل عنها، ولكنها الأهم، فهي تجعل كل ما أصدره مجلس النواب من قرارات وقوانين لاغيا وهو والعدم سواء، ويحتاج إعادة إصدار، على وجه يراعي المصلحة الوطنية العليا ومصالح الدولة الليبية والتزاماتها وروح التوافق. أقول ذلك ليس انطلاقا من موقف سياسي، بل انطلاقا من موقف قانوني، فكل هذه القرارات والقوانين، تحتاج إلى معالجة جديدة وإلا فإن باب الطعون سيفتح على مصرعيه. حلول من أجل تحقيق المصلحة الوطنية العليا استمرار الوضع على ما هو عليه وترحيل كافة مشاكل المرحلة، إلى جسم منتخب وفق الدستور، وهذا يتطلب على الأقل إيجاد مخارج قانونية تسمح بإصدار قانون الاستفتاء، وإصدار الدستور بعد موافقة الشعب الليبي عليه، وإصدار قوانين الانتخابات وفقاً للدستور، وإجراء الانتخابات وتسليم السلطة. التوافق على تعديل الاتفاق السياسي وإعادة تشكيل المجلس الرئاسي بالبناء على مقترح المبعوث الأممي السيد غسان سلامة.
ولقد أدليت بدلوي في تعديل مقترح السيد سلامة وقمت بإرساله إليه، والمقترح يشمل تعديلا للمادة الثانية. وكان أهم ما جاء في المقترح أن يقوم أحد المجلسين بترشيح ثلاث شخصيات لرئاسة المجلس الرئاسي، ويقوم المجلس الآخر بانتخاب أحد هذه الشخصيات الثلاث، ليكون رئيس المجلس الرئاسي، ويقوم المجلس الذي انتخب الرئيس، بترشيح ست شخصيات يقوم المجلس الآخر بانتخاب اثنين منهم ليكونا نوابا للرئيس. من الواضح أن مصلحة مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والمستقبل السياسي لأعضاء المجلسين، مرهون بسلامة العبور من هذه المرحلة الانتقالية التي أثقلت كاهل المواطن الليبي، نفسياً وإنسانياً واجتماعياً واقتصادياً، وأن جراحات هذا الشعب القديمة والحديثة ستلتئم إذا ما توافق المجلسان على خارطة للطريق جديدة وفقاً للمادة (12). ولله الأمر من قبل ومن بعد.