أسعار صرف الدينار أمام الدولار في السوق السوداء قفزت مرة أخرى وتجاوزت تسعة دنانير للكاش، والموقف يزداد صعوبة، والسبب في حدوث هذه القفزة في الواقع يستند لعدة أسباب . أولها حالة الارتباك التي تشهدها عمليات الاعتمادات المستندية بسبب شبهات الفساد واحتمال توقفها أو تعطلها ، ثانيا استمرار الانقسام بالمصرف المركزي وتزايده خصوصا مع قيام إدارة البنك المركزي في البيضاء بصك عملة نقدية جديدة بدون المرور بالترتيبات القانونية من المركزي الرئيسي للبنك المركزي ومقر عملياته الرسمية وفقا للقانون، ثالثا تفجر الموقف بين حكومة الوفاق والبنك المركزي طرابلس بسبب رفض البنك المركزي طرابلس الموافقة الفورية واشتراطه موافقة البرلمان، وربما المجلس الأعلى للدولة، المسبقة على الخطة، وهو أمر يؤشر بوضوح على عدم قرب عملية تعديل سعرالصرف المنتظرة من المراقبين والمتابعين محليا ودوليا. أما السبب الرابع فهو العنصر غير المباشر الذي يتركز في الحالة السياسية العامة وتضاؤل الأمل بقرب عقد تسوية سياسية للحالة الليبية، عودة العمل بمؤسسات موحدة.
يبدو أن كل هذه العوامل قد انعكست بشكل أو بآخر في التأثير على سعر الصرف الذي أصبح برغم الجميع يسيطر على شكل وأداء الاقتصاد الليبي الضعيف والهش.
ما أودّ طرحه في هذا المقال هو سيناريوهات المُحتملة لهذا الوضع المرتبك :
السيناريو الأول: استمرار الوضع السياسي المنقسم، وعدم الاتفاق على برنامج الإصلاح الاقتصادي بين حكومة الوفاق والبنك المركزي، في هذه الحالة سوف نرى استمرارا لحالة العمل كجزر منعزلة، وحتما سنرى البنك المركزي يقدم مشروع ميزانية للنقد الأجنبي جديدة للعام القادم ترسم شكل وحجم التحويلات بالنقد الأجنبي عبر الاعتمادات المستندية وتحويلات حكومية للسفارات والتوريدات الحكومية، وأيضاً للتحويلات الشخصية بتشجيع من تحسن عملية الإنتاج النفطي وأسعارها العالمية، وقد لا يتم اعتماد ميزانية جديدة للدولة سريعا كما حدث في العام الماضي، ربما سيكون في ظل هذا السيناريو أن نرى تعديلات على شكل ومحتوي ميزانية النقد الأجنبي، وخصوصا تبويب الأصناف وقيمة البنود المخصصة، وإضافة بنود جديدة لعل أهمها المتعلقة بالإعمار والبناء، كما أن نصيب الفرد يحتاج إلى إعادة تقييم وتعديل من حيث النوع، وقيم الحوالات الشخصية للأغراض المختلفة.
لا شك أن هذا السيناريو وارد أن يكون هو الأبرز في ظل الحالة المتعثرة سياسيا، ولكنه ومن واقع التجربة لتطبيق الموازنة الاستيرادية لهذا العام شابها بدون أدني شك فساد في كافة مفاصل عملية التوريدات، كما أنه لم ينجح في فك طلاسم أزمة السيولة الخانقة بالقطاع المصرفي، والسبب أنها كانت أداة منفردة في ظل قطاع مصرفي منقسم، وغير مسيطر على عملياته فنيا وتنظيميا، بالإضافة إلى أن هذا السيناريو سيصطدم بتفاقم العجز الحكومي المتراكم الذي يحتاج إلى معالجة قانونية وفنية، وسيحتاج استمرار هذا السيناريو هذه المرة إلى تشغيل محرك الائتمان المتوقف منذ فترة طويلة، ولعل سبل إعادة إطلاق وتدوير الائتمان تحتاج إلى جهد وتنظيم لا أدواته في المدى القصير والطويل ومجالاته والأدوار التي تلعبها المؤسسات الاقتصادية من قبل البنك المركزي، ولعل إطلاق شهادات الادخار النقدية للأفراد والقطاع الخاص وشهادات الاستثمار للمؤسسات والبنوك أمر في غاية الأهمية ولكنه في حاجة إلى تنظيم إداري وفني.
وفي تقديري أن إعادة إطلاق وتحفيز الائتمان والاستثمار سيكون عاملا مهما لعودة البنوك لعملها الأساسي والطبيعي، وهو خلق الائتمان الذي سيسهم في عودة تدفق السيولة.
السيناريو الثاني: الاتفاق على برنامج الإصلاح الاقتصادي بين الحكومة والبنك المركزي على الأقل في أهم وأبرز بنوده، وهو تعديل سعر الصرف، وضبط الإنفاق العام، وإلغاء الدعم أو استبداله.
يبدو أن هذا السيناريو يواجه صعوبات التطبيق في ظل ما نتج عن اجتماع الحوار الاقتصادي بتونس في بداية هذا الشهر، مع أنه كان الأبرز والأسهل للتطبيق .
وبرغم اعتقادي الراسخ أن هناك أجزاء من برنامج الحكومة المقدم يحتوي في كثير من بنوده على توصيات لا ترقى إلى مستوى إجراءات تنفيذية لبرنامج الإصلاح، وخصوصا أن البرنامج يستهدف التطبيق خلال سنة واحدة، وبالتالي يجب أن يكون البرنامج دقيق ومحدد الإجراءات، وبدون استخدام عبارات فضفاضة، كما أن البرنامج أغفل طرح إجراءات محددة لتعديل الدخول الحقيقية للمواطنين محدودي الدخل؛ لمجابهة مستويات الأسعار المترتبة على رفع الدعم عن الوقود والكهرباء وغيرها.
ومع ذلك يبقي البرنامج في إطاره العام مناسبا إذا ما كتب له الظهور إلى حيّز الوجود، وتطبيق هذا البرنامج سيقودنا مباشرة لتعديل سعر الصرف، وتطبيق آليات جديدة ستسهم في حلحلة أزمة السيولة، والقضاء على الفساد في الاعتمادات وتهريب الوقود، ودون إغفال إطلاق محرك الائتمان المصرفي ليعيد تنظيم دور القطاع المصرفي.
السيناريو الثالث : يرتكز على الوصول سريعا إلى اتفاق سياسي يجمع ويوحد المؤسسات ويقيم حكومة وحدة وطنية.
هذا السيناريو يبدو أنه الأفضل، إذا ما رأى النور فسيكون تأثيره حاسما على مستوى الاقتصاد الليبي. سيعيد تشكيل إدارات المؤسسات ويوحدها، وإن كانت أغلبها ستستمر تعاني من آثار الانقسام القاسية، وخصوصا ارتفاع فاتورة الدين العام وتسوية الالتزامات السابقة، وتضخم الكادر الوظيفي للمؤسسات والهيئات والمصالح العامة.
ولكن هذا السيناريو سيفتح الباب لتبني برنامج طموح للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الشامل في إطار رؤية أكثر وضوحا لمستقبل الاقتصاد الليبي، يعزز من دور القطاع الخاص، ويعيد الثقة للقطاع المصرفي عبر العديد من الأدوات النقدية والائتمانية المعروفة، ويعيد رسم وتشكيل العلاقات الاقتصادية بين مختلف أطرافه، وسيمكن من إجراء معالجات دقيقة على مستوى الإطار الكلي للاقتصاد والجزئي، وسيمكّن من إعادة تصويب الأوضاع الصعبة التي يعانيها المواطن والاقتصاد بشكل عام .
أعتقد جازمًا أن المرحلة القادمة في غاية الخطورة إذا لم يتم السعي لضبط وتعديل وتحسين الحالة الهشة التي يعيشها الاقتصاد والمواطن الليبي.
سيكون لكل من الإجراءات والأدوات الممكن استخدامها جوانب سلبية وأخرى إيجابية بدون شك، ويبقى أن يتحلى المسؤولون السياسيون والاقتصاديون بروح عالية من المسؤولية تجاه الوطن والمواطن، وتفهم سبل الخروج من المأزق الحالي أكبر معول لاختيار السيناريو الأفضل والأنسب.
____
المصدر: عين ليبيا