القبيلة مظلة اجتماعية وليست مكونًا سياسيا، وهي تقوم على رابطة الدم التي لا اختيار للإنسان فيها ولا فضل لأحد بالانتساب إلى هذه أو تلك، ورابطة التجمع التي تليق بالإنسان الذي كرمه الخالق بالعقل هي التي تقوم على الاختيار الإرادي الحر والفكري، ولا يعني ذلك التقليل من قيمة ودور القبيلة، قال تعالى: “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” وقد تأسست على كاهل القبائل والعوائل الليبية مظاهر الاجتماع الليبي، عبر سلسلة من التصاهر والاندماج، شمل جميع مكوناتنا على جغرافيا الوطن الشاسعة، وعبر مراحل تاريخنا منذ أن وجدت الهيئة الاجتماعية الليبية الحالية في شكلها وتركيبتها، وكانت طوال تلك المراحل الممتدة من التاريخ الاجتماعي عاملًا من عوامل التعارف وتماسك اللحمة، وتسوية الخلافات واحتوائها، واليوم لا ينتظر من التركيبة العوائلية والقبلية أي دور سوى أن تستمر فيما كانت تقوم به.
ومن هنا سيكون من الخطورة بمكان إقحام القبيلة والمكونات الاجتماعية في مضمار الصراع السياسي أو النزاع المسلح، مهما كانت المبررات، إذ من غير المطلوب اجتماعيا وعلى المستوى الوطني أن تقحم وتورط القبيلة والعائلة سياسيا لخدمة أغراص سياسية أو زعماء لهم أغراضهم ومعاركهم السياسية، التي يختلفون فيها وينازعون فيها غيرهم من أبناء المكونات الأخرى أو حتى المكون الاجتماعي نفسه، وبذلك تُقدم القبيلة قربانًا على مذبح طموح الزعماء والمشايخ، وتكرس أعمار أبنائها ودماءهم لتكون ثمنا بخسا لإشباع رغبات الزعماء في التسلط والتفوق السياسي على منافسيهم، سواء من داخل القبيلة ذاتها أم من زعماء القبائل الأخرى، وتاريخنا حافل بالصراعات والنزاعات الدامية التي لم نتخلص منها ونتمكن من إيقافها إلا بعد أن حصدت الأنفس، وهذا ما يجعلنا ننادي وبأعلى أصواتنا العقلاء من أبناء كل القبائل؛ لضرورة الحذر والانتباه من خطور إقحام القبيلة كمطية سياسية لمناصرة زعيم له طموح سياسي، فيستغل القبيلة ويضحي بالعشرات من شبابها في سبيل الوصول إلى غرضه الشخصي، وترث من بعده القبيلة حزازات داخلية وعداوات خارجية تكلف الأجيال القادمة باهض الأثمان، وكل ذلك من أجل إشباع رغبات شخص أو مجموعة من الأشخاص مهما علا شأنها في القبيلة، لا يستحقون البتة أن يكون دم أبناء القبيلة واستقرارها وسلمها وعلاقاتها مع بقية النسيج الاجتماعي الليبي ثمنا لطموحه وحملة لوصوله إلى غرضه السياسي.
إن هذا السلوك ينذر بخطر بروز ظاهرة التوظيف السياسي لمكون القبيلة، التي هي في الأصل تنظيم اجتماعي أفقي غير مؤطر بنظام ولوائح ولا يحتمل وجود هذه الممارسات “مكتبًا سياسيًّا” لقبيلة ما، أو “ناطقا” باسمها وبيانات ومواقف تتعلق بتفاصيل العملية السياسية وخلافاتها، التي لا تنتهي بسبب طبيعة تكوين القبيلة وتركيبتها غير المحكمة؛ فغالبا ما يكون إقحام القبيلة هو توظيف سلبي رخيص لأغراض ضيقة مضر بالقبيلة نفسها وبالمجتمع وبالسياسة عموما، فالسياسية غير الاجتماع ففيها نرى الرأي ونقيضه بين أبناء القبيلة الواحدة، وتختلف حتى مصالحهم الشخصية بسبب اختلاف فئاتهم وتخصصاتهم وأعمالهم ومدنهم وقناعاتهم الفكرية، أضف إلى ذلك أن مصطلح الأعيان أو الوجهاء أو المشايخ مصطلح فضفاض ومفتوح ويستطيع أن يدعيه أي أحد، وهذا السلوك يبدد أمل ليبيا التي تعيش انطلاقة نحو دولة وطنية مدنية لكل الليبيين، تكفل العيش لأبنائها دون تمييز ناتج عن اختلاف العرق أو اللون أو الانتساب، ويكون الجميع فيها سواسية وخاضعين لنفس القوانين والمعايير الاجتماعية تحت مظلة كبيرة تدعى دولة المواطنة.
ختاما … يجب أن يكُف الجميع عن إقحام هذا المكون في القضايا السياسية، الذي غالبا ما يكون استغلالا وتوظيفا سلبيا لها، وهو ما يوجب على الجميع ممن يسعون إلى بناء دولة مدنية ضرورة العمل على إعادة دور القبيلة إلى نصابه وموقعه الطبيعي، وعدم السماح بالانحراف به نحو التوظيف السياسي، والمحافظة عليه كمظلة اجتماعية ضرورية وعنصر فعال في الحراك الاجتماعي، لتكريس ثقافة التعايش على قاعدة المواطنة للجميع، ودعامة أساسية من دعائم السلم الأهلي، وأداة أولية من أدوات الحوار المجتمعي والمصالحة أينما كانت الحاجة إلى مبادرات اجتماعية رافدة لقوى الدولة والسوق على حدٍّ سواء.
محمد حسن صوان / رئيس حزب العدالة والبناء
المصدر: موقع عين ليبيا